مواعظ الرّجل الحكيم في تبيان الّنهج القويم

مواعظ الرّجل الحكيم في تبيان الّنهج القويم

هذه قصّة الرّجل المؤمن من آل فرعون, وهو أحد الصدّيقين الثّلاثة الذين في شانهم ورد قول النّبيء صلّ الله عليه وسلّم " الصدّيقون حبيب النّجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون والثّالث ابو بكر الصدّيق وهو أفضلهم"1. وقد شدّ انتباهي في هذه القصّة هذا الأسلوب الشيّق وهذا المنهج الحكيم في الدّعوة, منهج يقوم على التدرّج في الوعظ والنّصح في ازدواجيّة الترغيب والترهيب. والظاهر أنّ هذه القصّة قد اختزلت الطّريقة المحمديّة في الدّعوة بانتهاج السّريّة والتّكتم ابتداء في حكمة, ثمّ الجهر بالدّعوة بصدق وثبات. وسنحاول من خلال هذه الخواطر استجلاء أبرز ملامح هذا النّهج الميسّر في مسيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
يقول الشّيخ الطاهر بن عاشور"هذه القصّة غير مذكورة في التّوراة, ولكنّها مذكورة إجمالا في الفقرة السّابعة من الإصحاح العاشر"2 وقد يكون القرآن الكريم تفرّد بذكر تفاصيلها, حيث أفرد لهذه القصّة أربع عشرة آية من سورة غافر في إشارة الى عظمة ما تحتويه هذه الآيات الكريمة.
إنّ الله سبحانه وتعالى يقيّظ لرسله عبادا صالحين يشدّون أزرهم ويعضدون رسالاتهم نصرة لهم كما وعدهم بذلك جلّ جلاله *إنّا لَننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الأشهاد*³. فهذا الرجل من آل فرعون قد يكون هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ليعلم موسى أنّ الملأ من آل فرعون يأتمرون به ليقتلوه, فأخذته غضبة لله فأراد الدّفاع عن موسى عليه السّلام بقوله *أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم*.
لكنّ المثير في هذه القصّة هو تحوّل هذا الرّجل من لسان دفاع إلى داعية, آمر بالمعروف وناه عن المنكر, انتقال قد يوحي في ظاهره بحلول الرّجل المؤمن محلّ موسى في الدّعوة ممّا يثير جدل الازدواجية في التبليغ. غير أنّ المتدبّر في هذه الآيات يمكن أن يفهم هذا التّحول على أنّه إقرار من الله عزّ وجلّ بأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب محمول على كلّ مؤمن مكلّف وليس أمرا مقصورا على الرّسل. وهذه أولى خصائص هذا المنهج القويم. فوجود رسول يبلّغ رسالة ربّه لا يلغي هذه المسؤوليّة الشّخصيّة, وقد جاء في الحديث أنّ "السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس", كما أنّ خير هذه الأمّة وصلاحها ونجاتها كلّه مشروط بمدى قيامها بهذا الواجب, وذلك قوله تعالى *كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله* .
كان الرّجل المؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه "وكان كتمه الإيمان متجدّدا مستمرا تقيّة من آل فرعون وقومه, إذ علم أنّ إظهاره الإيمان يضرّه ولا ينفع غيره" على حدّ قول الشّيخ الطاهر بن عاشور. فعدم الجهر بالإيمان وتجنّب إثارة الضجّة كلّه يساعد على تبليغ الدّعوة ونشرها أو على قضاء الحوائج بصفة عامّة كما جاء في الحديث "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإنّ كلّ ذي نعمة محسود". ثمّ إنّ عدم الجهر في بداية الدّعوة قد يكون ضروريّا حتّى يتمكّن الإيمان في قلب الدّاعي فلا يجهر بلسانه ما ليس في قلبه.


1 رواه الإمام القرطبي في تفسيره
2 تفسير التحرير والتنوير
3 الآية 51 سورة غافر



وقوله تعالى *وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب* فيه تقديم احتمال الكذب على احتمال الصّدق, وذلك استقراء منه لما تفكّر به عقولهم وما تجيش به قلوبهم من خواطر التكذيب واستدراجهم أيضا إلى الاطمئنان إليه حتّى لا يشتبه النّاس في تعاطفه مع موسى فينكشف أمره. "ولم يكن تقديمه الكذب على الصّدق لشكّ منه في رسالة موسى ولكن تلطّفا في الإستكفاف واستنزالا عن الأذى" ذكره الإمام القرطبي.
ولمّا توسّم نهوض حجّته بينهم وأنّها استأنست نفوسهم, أمن بأسهم فتوخّى الحكمة بعد الحذر في قوله
*يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض* فقد أقرّ لهم بالسّلطة والملك في الأرض, وهذا الإقرار والاعتراف يحمل عدّة دلالات منها:
• أنّ الملك الذي يتصرّفون فيه والحكم الذي يتمتعون به ما هو إلاّ متاع الحياة الدنيا وزخرفها وأنّ الملك والحكم في اليوم الآخر لله الواحد القهّار وذلك قوله تعالى * لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار*¹.
• أنّ دعوته ليس فيها طمع في سلطة أو نفوذ أو حكم, بل هي دعوة صادقة إلى إعمال العقل والبصيرة لتمييز الحقّ من الباطل والتحسّب من كلّ ما يمكن أن يصيبهم من سوء جرّاء امتثالهم لأمر فرعون. وقد ساق لهم هذه الموعظة بحكمة بالغة حيث أنّه أدخل قومه في خطابه بندائه "يا قوم" ليريهم أنّه معهم وليكونوا أقرب إلى قبول نصحه ووعظه. ثمّ أدرج نفسه في الضّميرين "فمن ينصرنا", "إن جاءنا" ليبيّن لهم أنّه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه وأنّ المصيبة إن حلّت لا تصيب بعضهم دون بعض كما جاء في قوله تعالى *واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة*².
لمّا سمع فرعون كلام الرّجل المؤمن الذي ساقه وملأه إلى أدلّة صدق موسى بوجه لا يثير نفورهم وبطريقة لا يؤخذ عليه الانتصار لموسى, قال مخاطبا قومه *لا أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد* فكشف بذلك عن عجزه في إدراك الحقائق الخفيّة وأنّه لا يعلم إلاّ ظاهرا من الحياة الدّنيا. والرّاجح عندي أنّ تفصيل مجمل هذه الآية جاء في قوله تعالى *ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون*³.
ثمّ انتقل حكيم آل فرعون بالخطاب إلى عامّة النّاس بعد أن ابتدأ بنصح فرعون والخاصّة من قومه من ذوي الملك والسّلطان لأنّهم هم الذين بيدهم الأمر والنّهي. وهذا الترتيب في إسداء النّصيحة انتهجه الرّسول صلّ الله عليه وسلّم في تبليغ دعوته فكان ينفرد بكبراء قومه يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة, وذلك قبل أن يعمّم الدّعوة. لقد انتهز الرجل المؤمن هنا فرصة انكسار قلوبهم لتذكيرهم بأيّام الله وتحذيرهم من أن يحلّ بهم ما حلّ بالقرون الأولى, وهو ما جاء في قوله تعالى *ويا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد. ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التّناد يوم تولّون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد*


1 الآية 16 سورة غافر
2 الآية 25 سورة الأنفال
3 الآية 51 سورة الزخرف


سبق وأن قلنا أنّ هذه القصّة صيغت في أسلوب بديع يفي بأغراض الإمتاع والمؤانسة والاعتبار, وها نحن نقف هنا على أحد ملامح هذا الإبداع, إنّه إخراج مسرحي يفصل بين المشاهد في تشويق مثير مؤذنا بانتقال القصّة من طور إلى آخر. وقد وقع الفصل هنا بطريقة الرّجوع في الزّمن للتذكير برسالة يوسف عليه الصّلاة والسّلام وتأكيدها لدحض الشّكوك حول رسالته ودعوته. أمّا ذكرها في هذا السّياق بالذّات فقد يكون لما فيها من تشابه مع قصّة الرّجل المؤمن. ووجه الشّبه ربّما يكون في توخّي نفس المنهج, نعني بذلك التّحول من السّر إلى الجهر في الدّعوة, فإنّ يوسف أوصي بالتكتّم عن رؤياه بأن لا يقصصها على اخوته فيكيدوا له كيدا, ثمّ إنّه عليه الصّلاة والسّلام, لمّا كان على خزائن مصر, أخفى نفسه عن اخوته حتّى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وتستأنف القصّة بعد هذا الفاصل الممتع والمفيد ولكن في طور جديد وهو الجهر بالدّعوة. ولم يكن هذا الانتقال وليد ارتجال أو تصادف أحداث, وإنّما نتاج تخطيط محكم بأسباب ودوافع. لمّا بلغ فرعون أعلى درجات الكبر والاستعلاء وأعلن تمرّده على الخالق في استهزاء مشين بقوله *يا هامان ابن لي صرحا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السّماوات فأطّلع إلى إله موسى وإني لأظنّه كاذبا* عندها أخذت الرّجل المؤمن غضبة ثانية لله, فأعلن إيمانه وجهر بدعوته لمّا جهر فرعون بكفره وصدّ عن سبيل الله. هكذا يكون الانتصار لله بطريقة يتدرّج فيها الإنسان بحكمة ومرونة بين مختلف أساليب الدّعوة بما يناسب طبيعة الوضع المقتضى إصلاحه.
لقد اعتمد الرّجل المؤمن في هذه المرحلة الأخيرة من الدّعوة أسلوب الخطاب المباشر والصّريح عبر مسلكي الترهيب والترغيب, فأمرهم باتباعه وانتهاج طريق الرّشاد. لكن وأمام تعنّت فرعون وقومه فوّض أمره إلى الله آويا إلى ركن شديد.
إنّ تفويض الأمر إلي الله بعد تبليغ الدّعوة فيه مسألتان:
• أنّ هذا التفويض فيه اعتراف بتفرّد الله سبحانه وتعالى بهداية عباده وأنّك *لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين*¹
• المسألة الثّانية هو أنّ هذا التفويض فيه التزام بحدود الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وهو عدم الإكراه في الدّين .إنّها خلاصة الأمر, فالإنسان يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة في إخلاص واجتهاد وثبات حتّى يتبيّن الرّشد من الغيّ دون أن يكره النّاس على الإيمان وذلك قوله تعالى *أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين*².
لكنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بهذا النّهج الميسّر يبقى شرط لصلاح الأمّة ونجاة أفرادها كما وعد الله بذلك عباده المتّقين في قوله عزّ وجلّ * فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السّوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئس بما كانوا يفسقون*³. ولقد أنجز الله ما وعد بشأن الرّجل المؤمن من آل فرعون *فوقاه الله سيّئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب*

والله أعـلـم