جمعة التضرع
الخميس 07 ربيع الأول 1432 ـ الموافق 10 فبراير 2011
بقلم فضيلة الشيخ:- عبد الوهاب عمارة *
يا أمتنا الأبية الصابرة المرابطة المجاهدة, يا شبابنا الباسل الثائر على الظالمين فقد تعالت الصيحات وكثرت النداءات فيوم لانطلاق الثورة المباركة, ويوم للغضب, ويوم للرحيل, ويوم للشهداء وكل هذا مبارك بإذن الله وأحسب أن البعض قد نسي أو غفل عن يوم الفرقان عن هذا السلاح الذي لا يخيب وعن هذا السيف الماضي البتار إنه سلاح التضرع وسيف الدعاء فهلا لأيام نسميها أيام التضرع إلى الله فإني أدعوكم من هنا إلى يوم الجمعة أن نتضرع جميعا إلى الله ونبكي ونتوسل أن يزيح عنا هذا الكابوس الجاثم على صدونا منذ عقود والكل يستطيع استخدام هذا السلاح فكل مَن يملك قلبا نابضا يستطيع أن يشاركنا ثورتنا على الظلم والفساد والاستعباد
أيها الثائرون تضرعوا:
التضرع أن تلجأ لِباب الله تستغيث... تصرخ بقلبك وروحك وكيانك تبكي ذليلاً بين يدي القادر المقتدر... تمد يديك بحاجتك لأبعد ما تستطيع وتتغلف بدموع الفقر واللجوء... تنادي كل ذرة في جسدك وكل زفرة في روحك بالنجاة ممن يملك طوق النجاة...
التضرع هو عبادة المصائب والكوارث... لو نظر الله إلينا هذه الليالي في القيام وكانت الأيدي كلها مرفوعة تتضرع.. نقولها كما يقولها مَن تكسرت مركبته في عرض البحر ولم يبق بين يديه إلا لوح خشبي يذوب من ملح البحر ويوشك أن يتحلل... أسمعتم صوته كيف يصرخ بين الأمواج وعيناه إلى السماء وقلبه ينخلع مع قولته في كل مرة يا رب... هذا هو التضرع
تدبَّر في قول ربك العلي القدير{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ *فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام: 40-43) أيها الناس قفوا مع أنفسكم وقفة صدق واعلموا أنه لن يخرجكم من هذه الأزمة غير الله فلقد جربتم الكثير من الأيام وأطلقتم الكثير من الشعارات فآن لكم أن تطلقوا ألسنتكم بالتضرع إلى الله وتتخذوا التضرع شعاركم و الدعاء سلاحكم. الكل يتضرع؛ أئمة المساجد في الصلاة وفي الدروس والخطب فلنعبأ الشعب للتضرع جماعات وفرادى في الميادين نبكي ونتوسل، ولنجمع قلوبنا علي دعاء أكثرنا مسكنة وتواضعا، وتعلوا صيحات
يا رب... آمين..آمين ، فتنخلع لها قلوب الجبَّارين فيُهزموا بالرعب.
ولقد أخبر الله تعالى عن أقوام ابتلاهم وتوعَّدهم بالعذاب فاستكان بعضهم وتضرع إلى الله فكشف الله عنهم عذاب الدنيا،(فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98)
وقد ذكر بعض المفسرين أن قوم يونس خرجوا إلى الطرقات واصطحبوا نساءهم وأطفالهم ودوابهم ودعوا وجأروا إلى الله، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أياما يدعون ويستغيثون ويتضرعون ويبكون فكشف الله عنهم عذاب الدنيا مِنةً منه وفضلا.
وأخبر عن آخرين ابتلاهم وتوعدهم لكنهم تكبَّروا وتجبَّروا وما استكانوا ولا تضرعوا فأخذهم العذاب{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ* حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (المؤمنون: 76،77)
والنبي صلى الله عليه وسلم يتضرع ويدعو في بدر ويستنصر ربه حتى أنزل الله المدد: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال:9)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ « يَا حَىُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ». الترمذي وحسنه الألباني
عوامل النصر الحقيقية:
يقول الله تبارك وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال: 45-46)
فعوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله، بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي
أما الثبات:فأثبت الفريقين أغلبهما، وما يُدريكم يا أمتنا أن عدوكم يعاني أشد مما تعانون؛ وأنه يألم كما تألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما ترجون؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبِّت أقدامه وقلبه! وأنكم لو ثبتم لحظة أخرى فسينخذل عدوكم وينهار؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر؟ بينما عدوكم لا يريد إلا الحياة الدنيا؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي.
فسحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي، قالوا:
{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } (الأعراف:126) ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل، وهي تواجه جالوت وجنوده:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } (البقرة: 250-251) ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }(آل عمران: 146-148) ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة؛ فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً. وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في « أحد »؛ فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم، كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }(آل عمران: 172-174) إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تُغلب؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه،وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتقرير ألوهيته في الأرض،لا ألوهية زعيم أو رئيس، ولطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية؛ المعتدية على حقوقنا مع اعتدائها علي حقوق الله،حق الطاعة والعبودية،إذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا؛ لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف
وأما طاعة الله ورسوله، فلابد من إحداث توبة وندم لكل مفرط لكل مسرف على نفسه وليعلم المقصر أن تأخير النصر إنما يأتي من قبله فلقد حُرِم بنو إسرائيل المطر بسبب معصية واحد منهم ولمَّا تاب بينه وبين ربه قَبِل منه وأنزل الرحمة على بني إسرائيل فلربما كان تأخير النصر بسبب تهاون البعض في أداء الصلاة في أول وقتها،ولربما كان تأخير النصر بسبب تساهل البعض فيما لا ينبغي التساهل فيه، والتوسع في دائرة المباحات، والوقوع في دائرة الشبهات بل والمحرمات، ولربما كان تأخير النصر بسبب التنازع والخلافات وتبادل الاتهامات، ولربما كان تأخير النصر بسبب اعتداد البعض برأيه، وإعجابه بنفسه، واستعلائه على الآخرين كما قال { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجِّه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع « الذات » في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء! ولربما كان الابتلاء بسبب التقصير في أمر آخر غير ما ذكر، فاللبيب تكفيه الإشارة، وكل منا يعلم ماله وما عليه، فلينظر كل منا في نفسه فهو بها أعلم وليتب إلى الله توبة نصوحا.
وأما الصبر. فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة، أية معركة في ميدان النفس أم في ميدان القتال.{ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلبة و الفلاح.
اللهم يا مغيث أغثنا يا مجير أجرنا, يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث, اللهم احفظ مصرنا وأدم عليه الأمن والأمان والسلامة والإسلام
انشر وشارك في الأجر
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الصافات:180 - 182]،
والصلاة والسَّلام على مَن:
بَـلَـغَ العُلَى بِـكَـمَـالِــهِ *** كَشَفَ الدُّجَى بِجَمَالِهِ
عَظُمَتْ جَمِيعُ خِصَالِـهِ *** صَـلُّــوا عَـلَـيْـهِ وَآلِــهِ