موضوع الثلاثاء .. موجبات الثبات على طريق (1)
بقلم: د. حسين شحاتة
- منزلة الدعوة إلى نُصرة دين الله
الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة منزلة عالية، ومن خصال المؤمنين الصادقين العاملين المخلصين الذين اختارهم الله لهذه المهمة العظيمة، ولقد أمرنا بها فقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران)، ولقد استجاب هؤلاء الدعاة إلى نداء الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن ؟، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (رواه مسلم).
فالدعوة إلى نُصرة دين الله فريضة شرعية، وحاجة إنسانية، كما أنها شرف وقيمة وعزة ونعمة ورزق ساقه الله إلى من يحب ويشاء من عباده المؤمنين، فلا ينبغي أن نخجل أو نتوارى من أننا دعاة لنصرة دين الله عز وجل بل يجب أن نعتز بذلك، ولكن لهذه الدعوة طريق له طبيعته الخاصة، ويتطلب الثبات في السير فيه حتى تتحقق المقاصد والغايات، وهذا ما سوف نتناوله في هذه الدراسة.
- طبيعة طريق الدعوة إلى نصرة دين الله
يقول الفقهاء والدعاة بأن هذا الطريق مليء بالعقبات والصعاب وليس مفروشًا بالحرير، أو مزروعًا بالورود، أو ممهدًا بالبُسط، أو موقوفًا بزمن معين، بل هو ممتد إلى يوم قيام الساعة، فالمسلم يدعو إلى نصرة دين الله حتى يأتيه اليقين.
ولقد صور القرآن الكريم طبيعة هذا الطريق فقال الله: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)﴾ (آل عمران)، وقوله عز شأنه: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)﴾ (البقرة)، ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طريق نصرة دين الله مليء بالابتلاءات والاختبارات، وكلما زاد الإيمان والرضا في هذا الطريق، زاد الابتلاء، ودليل ذلك إجابته صلى الله عليه وسلم عندما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاءً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء ثم الأمثل" (متفق عليه)، وأمرنا صلى الله عليه وسلم بالصبر والرضا عند الابتلاء فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط"، وهذه الابتلاءات والامتحانات في طريق نصرة دين الله توجب الثبات والصبر حتى النصر أو الشهادة، وهذا ما سوف نتناوله في الفقرة التالية.
- الثبات ضرورة شرعية لنصرة دين الله
بعد الثبات بأن يظل المسلم الذي بايع الله، عز وجل، عاملاً مجاهدًا في سبيل نصرة دينه، وغايته جعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين يصدون عن دين الله السفلى مهما بعدت المدد، وتطاولت الأعوام حتى يلقى الله سبحانه وتعالى وهو على هذا الطريق غير مبدل ولا مفرط، ولقد وصف القرآن الكريم هؤلاء، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب)، ولقد أمر الله سبحانه وتعالى المجاهدين في طريق نصرة دينه بالذكر والدعاء والثبات، فقال لهم الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾ (الأنفال)، فأساس الفلاح لنصرة دين الله الثبات.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم والرسول صلى الله عليه ينشدون وهم يحفرون الخندق "والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا، ولا صلينا، فأنزل سكينة علينا، وثبت الأرض إن لاقينا إن الأُولى قد بغوا علينا، وإذا أردوا فتنة أبينا، أبينا، أبينا"، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته في كلمة أبينا الثانية والثالثة، (رواه البخاري).
ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث النبوية التي تُوجب الثبات والصبر على الابتلاءات منها قولـه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهو على ذلك" (رواه الحاكم)، فمن يثبت ويصبر في مواجهة المثبطين والمخذلين والقاعدين سوف ينتصر عليهم ويكون من الفالحين.
وكان الثبات عند المحن عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم من أهم تميزهم، وتفوقهم، ونصرتهم على أعدائهم، وهذا ما خلده التاريخ الإسلامي عنهم.
فيجب على المسلم السائر في طريق نصرة دين الله أن يثبت على البيعة التي بايع الله سبحانه وتعالى عليها صابرًا على الابتلاءات والمحن والتحديات التي تقابله في هذا الطريق، وطالبًا من الله أن يثبته على هذا الطريق حتى يأتيه اليقين، وأصل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من آيات منها قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)﴾ (الأنفال)، وعندما تخلص النوايا وتصدق العزائم، يتولى الله سبحانه وتعالى بقدرته وبجنده مسألة التثبيت والنصر، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في سورة الأنفال في غزوة بدر حيث يقول القوى العزيز سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)﴾ (الأنفال)، فمن مقومات التثبيت في هذه الآية:
* طمأنة المجاهدين بأن الله معهم.
* دخول الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا.
* التوجيه الإلهي بطريقة القتال.
وهذا الثبات له مقومات أساسية: معنوية وعتادية نتناولهما في الفقرة التالية إن شاء الله تعالى.
يتبع ...