قراءة في قصة فرعون
الأحد 03 ربيع الأول 1432 ـ الموافق 06 فبراير 2011
بقلم الشيخ :- حسن الكنزلي*
فرعون الطاغية حقيقة معروفة في التاريخ البشري وفي الأديان السماوية ، تجبر في الأرض وأصابه جنون العظمة وهوسها حتى ادعى الربوبية {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} النازعات:24 ادعى الربوبية التي تعني تدبير شؤون الكون والتكفّل برزق العباد وتوفير أسباب الرزق وإزالة موانعها ، فلا فقر في زمانه ولا بطالة ، كيف لا وهو يملك مصر وشعبها وثرواتها وكل مقدراتها (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الزخرف:51 ، قال ذلك مستخفا بهم ويبدو أنهم كانوا مجموعة ممن رباهم على الجهل ، أو ممن يتملقون له مقابل تحقيق مصالح ضيقة أو تمرير مشاريع صغيرة فسايروه في ذلك وأطاعوه ، يظنون أن ذلك يعفيهم من المسؤولية ، فكانت النتيجة أنهم صاروا في حكم الواحد الأحد فاسقين {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} الزخرف:54، وهم ليسوا فاسقين حكما فقط بل فاسقون عملا حينما جعلوه يمرر مشروعه الأناني الكبير قياسا إلى مشاريعهم الحقيرة والتي لتحقيقها باعوا وطنهم وشعبهم وقضاياه..
ولما رآهم كذلك ازداد استخفافه بهم وادعى الألوهية ، ليس هذا وحسب بل ادعى أنه ليس يستحقها غيره {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي..} القصص :38، الألوهية التي تعني تعبيد الخلق للخالق بطاعة أمره واجتناب نهيه (تشريع) ، وقد شرع لهم فعلا وسن القوانين لا التي تحقق مصالح العباد ، وإنما التي تجعله عاليا مسرفا جباراً في الأرض ـ وزعم بذلك أنه يهديهم إلى ما هو أصلح لهم وأرشد {.. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} غافر:29. ولقد كانت له بطانة سيئة من الوزراء ـ كهامان ـ ، ومن المستأثرين بثروات البلاد والعباد ـ كقارون ـ وكانت له بطانة ـ أيضا ـ من علماء زمانه المغلوب على أمرهم ـ كسحرة فرعون ـ وكان له جنود تطيع أمره باعتباره ربها الذي لا يجوز أن يعصى... وهكذا علا في الأرض ولضمان جبروته جعل الناس فرقا (فرق تسد) وبذلك شتت جهدهم وفرق كلمتهم واستضعفهم وفعل بهم الأفاعيل {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} القصص :4، لكن هذا الجبروت والاستبداد في الأرض والصمت عليه لم يدم ؛ فقد سلط الله لفرعون وزبانيته رجلا ضعيفا طريداً ، وسلط الله لهذا الضعيف جنوده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} المدثر :31 فاليم خبأه وقلب زوجة فرعون أحبه ، وعقل فرعون استهونه ، وفي بيت فرعون نشأ ، وهيأ الله أسباب منته على المستضعفين ليجعل قادتهم منهم ويمكن لهم في بلدهم ويجعل الدائرة على فرعون وأعوانه وأركانه {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)} القصص،أرسل موسى ـ عليه السلام ـ إلى فرعون وبطانته بمشروعه الحضاري التحرري فردوا على مشروعه بالتكذيب والتشكيك ، وبدأوا بحملة قمعية ضد المؤمنين بالقضية التي يناضل موسى من أجلها واتبعوا كل أساليب القمع بذريعة الخوف على مصلحة البلاد وتحت مسمى محاربة تبديل الدين (شريعة فرعون) ومكافحة الفساد الذي رمى به موسى ـ عليه السلام ـ كذبا وزورا {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ(25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ(26)} غافر، ويبدو أن فرعون طلب مناظرة موسى فجمع سحرته ـ علماء زمانه ـ لتنفيذ هذه المهمة ولخبرتهم ولاتضاح الحقائق ولاحترامهم الحق ، سلموا لموسى وأعلنوا عن انطوائهم تحت لوائه وقالوا لا لفرعون ولم يلقوا بالا لوعيده وفضلوا الموت أحراراً على الحياة عبيداً له {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ الَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى(71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)} طه ، لقد كانت هبة شعبية بقيادة موسى من أجل أن يحيا شعب مصر بعد الموت تحت وطأة فرعون ، ويبدو أن من قوم فرعون من عرف الحق وأدى واجبه وأبرأ ذمته ونصح {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)} غافر.
لكن فرعون عاند وتكبر ولم يرعوي ؛ وكان كبره وغروره جند من جنود الله المسلطة عليه فساقه الله به إلى حتفه وحتف جنده معه وهو لا يدري {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} القصص:40، ساقه الله بغيه وعدوه إلى غياهب البحر الأحمر آخر الجنود المسلطة عليه ،وأخيراً أدرك مدى ضعفه وخطأه وعرف عدالة قضية شعبه المستضعف ، فأعلن فهمه لها واعترافه بها لكن في وقت متأخر جدا! ؛ فلم يقبل اعتذاره {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)} يونس، لقد كانت قصة سقوط فرعون الطاغية واعتلاء قضايا المظلومين حقيقة ثابتة في التاريخ وفي الكتب السماوية وصارت رمزًا لسقوط الطغيان واعتلاء الحق وما زالت تتكرر وستتكرر ، فالتاريخ يعيد نفسه ، فهل نأخذ العبر؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب إسلامى