تعذيب الناس.. جريمة خارج العصر (1-3)
بقلم فضيلة الأستاذ الدكتور :- عبد الرحمن البر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومَن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد، فما أكثر ما تطالعنا الأخبار بحصول حالات تعذيب وقهر وإيذاء لبعض المواطنين في أقسام الشرطة أو في مقار الأجهزة الأمنية، ولعله ليس آخرها ما جرى للشاب السكندري سيد بلال الذي نسب إلى أحد ضباط أمن الدولة التسبب في قتله بتعذيبه، ربما لإجباره على الاعتراف بارتكاب جريمة لا يد له فيها ولا علم له بمرتكبها، وهو ما يُعد جريمة قتل غير مشروعة، أو خارج إطار القانون بالتعبيرات القانونية الحديثة، وقد سبق أن كتبتُ عن الموقف الصارم للشريعة الإسلامية من هذه الجريمة، وعن أثر الاستبداد في شيوع هذه الجريمة، وعن الآثار السلبية المدمِّرة للحاضر والمستقبل في الأمة التي يفشو فيها هذا الداء الوبيل.
ومع سقوط زين العابدين بن علي أحد أباطرة التعذيب والاستبداد في عالمنا العربي والإسلامي، وما يتكشف بشكل متكرر من حالات التعذيب في أنحاء متعددة من عالمنا العربي والإسلامي، فإن من المهم أيضاً أن نستقبل بالترحيب استقالة وزير الداخلية الكويتي إثر انكشاف إحدى حالات التعذيب، وكان لافتا أن الوزير قال في سابقة غير معهودة في ظل النظم العربية الحالية: إنه لا يشرفه أن يكون على رأس وزارة تعذِّب المواطنين، وإنا لندعو الله أن تصيب هذه العدوى مراكز الإحساس في وزارات الداخلية في بلادنا العربية والإسلامية.
وفي هذه السلسلة أعيد إلقاء الضوء على موقف الإسلام من هذه الجريمة الكبرى، من خلال النقاط التالية: 1- موقف الإسلام من تعذيب البشر في غير حق.
2 - ماذا يجب على مَن رأى التعذيب أو علم به
3 - حكم التعذيب المفضي إلى القتل
4 - هل يحل لمن وقع عليه التعذيب أن ينتقم ممن عذَّبه أو أن ينتحر يأسا وقنوطا واحتجاجا على الظلم.
5 - هل يعذر القائم بالتعذيب إذا كان مأموراً بذلك من قيادة أعلى؟
6 - أيها الحكام، مَن رفق بالناس رفق الله به ومَن شق عليهم شق الله عليه
7 – الإقساط والإحسان والعدل أصلح أثراً وأجدى نفعا من الظلم والجور والتعذيب
8 - نماذج من العدل في التعامل مع الناس
أولا: موقف الإسلام من تعذيب البشر في غير حق:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا»
وفى رواية عند الإمام مسلم أيضا، عن عروة بن الزبير قَالَ: مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ. فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا».
والأنباط: هم فلاحو العجم، أي الفلاحون في الشام من غير العرب.
وفى رواية عند مسلم: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ وَجَدَ رَجُلاً وَهُوَ عَلَى حِمْصَ يُشَمِّسُ نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا».
وفي رواية قَالَ: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ –أي دخل عليه هشام- فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا.
هذا الحديث يكشف أن سيدنا هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه رأى قوما من النَّبَط أو من فلاحي بلاد الشام من العجم من غير المسلمين، وقد تأخَّروا عن أداء الحقوق المالية للدولة، فأخذهم الحاكم أو الوالي يومئذ وأقامهم في حرِّ الشمس، وصبَّ على رؤوس بعضهم الزيت زيادة في النكال والتعذيب، متجاهلا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل الشنيع.
وهكذا نرى الإسلام الحنيف واضحا كل الوضوح في النهي عن تعذيب الناس بغير حق، سواء كان هذا التعذيب لإجبارهم على اعتناق شيء، أو لإكراههم على فعل شيء، بل اعتبر الإسلام الضغط والإكراه بالتعذيب عملاً مشينا يعرِّض فاعله لعذاب الله يوم القيامة كما في الحديث، حتى لو كان مَن توجه إليه الضغط أو التعذيب مقصِّراً في أداء الحق الذي عليه، فليس هذا سبيلاً مشروعا ولا مقبولاً لاقتضاء الحقوق، حتى لو كانت حقوق الدولة.
ومن أروع التطبيقات في ذلك ما رواه البيهقي عن رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفَ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بُزُرْجِ سَابُورَ (بلدة من البلاد) فَقَالَ: لاَ تَضْرِبَنَّ رَجُلاً سَوْطًا فِي جِبَايَةِ دِرْهَمٍ،... وَلاَ تُقِمْ رَجُلاً قَائِمًا فِي طَلَبِ دِرْهَمٍ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذًا أَرْجِعَ إِلَيْكَ كَمَا ذَهَبْتُ مِنْ عِنْدِكَ! (يعني لن يجبي شيئا للدولة) قَالَ: وَإِنْ رَجَعْتَ كَمَا ذَهَبْتَ، وَيْحَكَ! إِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ، يَعْنِي الْفَضْلَ.
ثانيا: ماذا يجب على مَن رأى التعذيب أو علم به:
لما رأى الصحابي الجليل هشام بن حكيم بن حزام تلك الصورة البشعة التي يرفضها الإسلام، لم يدفن رأسه في الرمال ولم يتجاهل ما حصل، بزعم أن المتعرضين للتعذيب أخطئوا أو أنهم غير مسلمين، أو أن ما فعلوه يدخل في باب التمرد، أو غير ذلك من التبريرات التي يسوقها مفتو الضلالة لمن يرتكبون أمثال هذه الجرائم، وإنما أعلن اعتراضه على ذلك، وبَّين الحكم الشرعي في هذا الفعل القبيح المستقبح أصلاً وشرعا؛ فإن الوالي إذا اعتبر تعذيب الناس هو السبيل إلى أداء الحقوق، كان بذلك معذِّباً نفساً بغير حق.
وكان هشام بن حكيم رضي الله عنه إيجابيا حيث لم يكتف بذكر الحكم الشرعي، بل تحرَّك وذهب إلى الوالي الذي أمر بذلك وهو عمير بن سعد فأبلغه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عمير بن سعد بهؤلاء الناس فخلي سبيلهم.
وتكرر هذا من حكيم بن حزام مرة أخرى؛ حين رأى عياض بن غَنْم يفعل ذلك مع أهل حمص من غير المسلمين وهو يُشمِّسهم أو يقيمهم في الشمس، ويبدو أن ذلك كان أحد صور النكال والعقوبة لمن يخالف أمر الولاة.
فقد أخرج ابن حبان وغيره في صحيحه عن عروة بن الزُّبَيْرِ: أَنَّ هِشَامَ بن حَكِيمِ بن حِزَامٍ، وَجَدَ عِيَاضَ بن غَنْمٍ وَهُوَ عَلَى حِمْصَ شَمَّسَ نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ هِشَامُ بن حَكِيمٍ: مَا هَذَا يَا عِيَاضُ؟ إِنِّي سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا».
فلم يقبل سيدنا هشام بن حكيم إذ رأى هذا المنظر غير الإنساني وغير اللائق أن يسكت على هذه الجريمة، ومن ثم تحرك وأعلم فاعل هذا بلعنة الله ورسوله وبما يستحقه من عذاب حينما يلقى الله تبارك وتعالى. وذلك ما يجب على كل مَن رأي مثل هذا المنكر أو علم بمثل هذه الجريمة.
وهذه دعوة لكل دعاة حقوق الإنسان ولكل الجمعيات والهيئات والأفراد ذات العلاقة بالقيام بواجبهم في إنكار هذه الجريمة أيا كان مرتكبها، بل هي دعوة للأمة جميعا بعدم السكوت على انتهاك كرامة الإنسان أيا كان جنسه أو دينه، حتى لو كان مرتكبا لشيء يستحق المؤاخذة عليه، فلا يجوز معاقبته خارج السياق القانوني للخطأ الذي ارتكبه.