عفواً !! عدِّل مسارك قبل سقوطك وانهيارك (1)
بقلم الأستاذ :- خميس سعد النقيب
الزمن يدور، والحياة تسير، والزاد مع السالكين قليل، والسفر إلى الله تعالى طويل، والحساب أمام الله عز وجل شديد...!! وما من يوم ينشق فجره إلا وينادي مناد يا بن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني إلى يوم القيامة لا أعود.. عام مضى وعام أتى..!! عام أدبر وعام أقبل..وبينهما يقف العبد مع نفسه يحاسبها، ومع أعماله يراجعها، ومع أولوياته يرتبها، ومع حركاته وسكناته ينظمها، يتخلص مما علق به من ذنوب وسيئات، ويسترجع ما فاته من درجات وحسنات، ويستزيد مما أفاء الله عليه من نعم ورحمات، لينجو يوم الممات من الشدائد والكربات..كالتاجر الناجح في الدنيا لا ينام في أكثر الأيام، وإنما يقضي وقته بين السفر والمقام، بين السهر والزحام، بين التعب والآلام، حتى إذا كان آخر العام جرَّد دفاتره، وراجع فواتيره، وأنهى حساباته، ليتجنب خسارته ، ويزيد من ربحه، وهو ربح دنيوي قد يكون أوْ لا يكون، وإذا كان قد ينتفع به أو لا ينتفع، وإذا انتفع به قد يدوم أو لا يدوم، وإذا دام فإن صاحبَه نفسه لا يدوم..كيف ؟!! " قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ.."(النساء:77-78) فمن لم يحاسب نفسه دامت يوم القيامة حسراته، وطالت في عرصات الآخرة وقفاته، وزادت على أبواب العذاب أنَّاته ونزعاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته ونزواته..!!
يقول الفاروق رضِي الله عنه: حاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوها قبل أن تُوزَنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله..!!
بين عام وعام تخفت الآلام وتتزايد الأحلام:- مضى عام بحلوه ومره، بخيره وشره، بحسناته وسيئاته، بأفراحه وأتراحه..ترادفت الساعات، وتسارعت اللحظات، وتغيرت الحالات... كيف ؟!!..الصحة تقوى وتضعف، والنجوم تختفي وتظهر، والأيام تقبل وتدبر، وربك يخلق ما يشاء ويختار وكل شيء عنده بمقدار، والعبد المؤمن بين مخافتين !! أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه وأجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن صحته لسقمه ومن حياته لموته فما بعد الموت من مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار..
يقول ابن كثير:
تمر بنا الأيام تترى وإنما تساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدر
قال ابن القيِّم رحمه الله: "ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أمانيّ، والوقت ضائع بينهما " الفوائد ص 48.، وروى البخاري في "صحيحه" من حديث علي - رضِي الله عنه - أنَّه قال: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل..!!
وقتك هو ثروتك..هو رأس مالك.. هو حياتك.... وصحتك هي تاجك... لذلك.. " نعمتان مَغبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحَّة والفَراغ " صحيح البخاري
قال عبد الله بن مسعود - رضِي الله عنه -: ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربتْ شمسه، نقص فيه أجَلِي ولم يزدَدْ فيه عملي.
وقال الشافعي رحمه الله : "صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين، سمعتهم يقولون: الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل. مدارج السالكين" (3/ 97)
ويقول النبي( صلى الله عليه وسلم) : " لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأَل: عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل؟ وعن ماله من أين اكتَسَبه؟ وفيمَ أنفَقَه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه؟ " قال الترمذي: حسن صحيح
اغتنم قبل أن تغتنم وحاسب قبل أن تحاسب: " اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك " (صحيح) انظر حديث رقم: 1077 في صحيح الجامع، قال (صلى الله عليه وسلم) : إن قلوب بني آدم كلَّها بين إصبعَيْن من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد، يُصَرِّفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: اللهمَّ مُصَرِّفَ القلوبِ، صَرِّفْ قلوبنا على طاعتك. صحيح
يقول الله تعالى: " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ" (النور:37) " لماذا ؟!! ترهيب..!! " يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ "(النور:37) ثم ترغيب.." لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (النور: 37)..لذلك كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكثِر من قول: يا مُقَلِّبَ القلوب، ثَبِّت قلبي على دينك. صحيح مسلم، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: يا ابن آدم، إنما أنتَ أيَّام؛ فإذا ذهب يومُك فقد ذهب بعضُك، وقال: أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم على دراهمكم ودنانيركم.
لذلك... وفي الصحيحين في قصَّة الكبش الذي يُذبَح بين الجنَّة والنَّار، ويُقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، ثم قرأ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم " وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ " (مريم: 39) وأشار بيده إلى الدنيا. صحيح مسلم.
قال محمد بن علي الترمذي: اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه..!! وعن ميمون بن مهران قال: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، والشريكان يتحاسبان بعد العمل، وتروي أم المؤمنين عائشة: إن أبا بكر رضي الله عنه قال لها عند الموت: ما أحد أحب إلي من عمر، ثم قال لها كيف قلت ؟ فأعادت عليه ما قال فقال: لا أحد أعز علي من عمر.. نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبر لها وأبدلها بكلمة غيرها..
السقوط والانحدار: وقيل مَن كان يومه مثل أمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون... كان يتجنب المكروهات والمحرمات، فاقتصر على المحرمات، وكان يصلي الفرض والنفل أصبح لا يصلي إلا الفرض، كان يخرج الزكاة مع الصدقة فبات لا يخرج إلا الزكاة وربما يقصِّر فيها, كان يصلي حاضراً أصبح يصلي قضاء.. بدل أن يعلو انحدر، وبدل أن يصعد نزل، وبدل أن يرتقي تسفل وبالتالي لعِن ومَن لعن طرد ومَن طرد خسر، ومن خسر فقد الدنيا والآخرة مثل مَن قال الله فيهم..!!" وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ "(القصص:42) " مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً "(الأحزاب:61)
اختارهم الله لأمر عظيم وخلقهم في أحسن تقويم "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (البلد:4) لكنه اختار لنفسه سبيلاً آخر إن مثل هؤلاء. ضيّعوا أوقاتهم، وعمَّروا دنياهم، وخرَّبوا أخراهم فردوا إلى السقوط والانحدار..!! " ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ"( البلد:5)... يتبع الجزء الثاني..!! اللهم امنحنا التقوى.. جملنا بالعلم وزينا بالحلم..اللهم استعملنا في طاعتك ولا تذلنا بمعصيتك.. اللهم ثبت قلوبنا على دينك، وصرف قلوبنا على طاعتك..اللهم اشرح صدورنا وأحسن ختامنا وجمل خلاصنا.. اللهم اجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.