إن الإنسان بإمكانه أن يغير مجرى حياته، ويحقق مراده بتوجه صادق لله عزوجل، فهو الذي بيده خزائن كل شيء، ولكن الأمر يحتاج إلى صدق واستحقاق
- إن من يريد الخشوع في الصلاة، فإن عليه الاعتناء بمقدمات الصلاة، على المسلم أن يبدأ تفاعله من حين الوضوء فمن المناسب أن يحاول الإنسان قدر الإمكان أن يكون على طهور، لأن الحدث الذي يصيب الإنسان -بنوعيه الأصغر والأكبر- يوجب ظلمة باطنية، أضف إلى أن المحدث ممنوع من بعض الأمور التعبدية.. ومن المعلوم أن هذه الظلمة ترتفع بالوضوء والغسل، ومن هنا فإن أولياء الله والعباد الصالحون، عندما يحدثون فإنهم يبادرون إلى الوضوء وإلى الغسل..
وهنا إشارة للأخوات المؤمنات:
البعض يظن بأن المرأة معفية عن العبادة في أيام شهرها، والحال بأنها معفية من الصلاة لا من العبادة.. فالقرآن الكريم، والدعاء، والمناجاة مع رب العالمين كلها عبادة.. و كأنه يريد أن يتحلل من كل القيود!.. فالتي تترك كل صور العبادة في أيام إلى عشرة، فإن ذلك سيعود عليها بقساوة القلب وموته.. لذلك على المرأة أن تذكر الله تعالى.. فذكر الله -تعالى- في بعض الأوقات، قد يكون أبلغ، لأن المرأة متحرقة على حرمانها لصلاتها..
قال النبيّ (ص): يقول الله تعالى: (مَن أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني، ومَن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني، ومَن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني ولم أُجبه فيما سألني من أمور دينه ودنياه فقد جفوته، ولست بربٍّ جاف).
من الواضح أن العمل بهذا الحديث يحتاج إلى همة عالية، ولكن الميسور لا يترك بالمعسور، فالإنسان بإمكانه أن يتوضأ كلما أحدث ، وكلما توضأ يدعو الله عزوجل، ويكفي أدعية الوضوء..
ومن بركات الإنسان المؤمن الذي يتعود الوضوء الدائم، أنه إذا أحدث يرى نفسه في حالة من حالات عدم الطهر.
إن تخصيص مكان للصلاة من موجبات تحقيق الصلاة الخاشعة، وأن ذلك فيه نوع من التأدب والاعتناء بمكان اللقاء الإلهي، أضف إلى أن الأمر فيه ارتباط نفسي.. من المعلوم تجربة ذلك العالم الروسي بافلوف حيث أنه كان يقدم الطعام لحيوان ويقرن ذلك بصوت الجرس، وبعد فترة صارت هنالك حالة من التلازم عند الحيوان بين الطعام وبين هذا الصوت، ولما منع عنه الطعام وضرب الجرس، رأوا أن شهيته فتحت للطعام، لأنه تذكر الطعام المقترن بالجرس.. وتطبيقا لهذه القاعدة نقول: إن الإنسان من الممكن أن تمر عليه فترات في حياته ويرق فيها في الصلاة، فتختزن تلك الحالة في ذهنه، وكلما نظر إلى ذلك المكان، فانه يعيش ذلك الجو من الخشوع والإقبال.. وهذا مجرب حتى في الالتزام بمصحف ثابت، إذ أنه يزيد من سرعة الحفظ، ويوجد حالة من الأنس بهذا المصحف.
إن التأمل في جمل الأذان والإقامة من موجبات الخشوع في الصلاة.. ومن المعلوم أن هذه الجمل من الوحي، فرب العالمين هو الذي صاغها.. ولو تأمل الإنسان في ملكوت الأذان والإقامة، لكان من المستحيل أن لا يصلي في أول الوقت، فالخجل يمنعه من التأخير، والوجل يدفعه للتقديم. {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا. فالإنسان عندما يصلي وذهنه في غير الصلاة، فان هذا يعد خلاف التوقير..
الأذان والإقامة فيها جملتين تبدأ بكلمة (حي): (حي على الصلاة، حي على الفلاح( ومعنى هذه الكلمة في اللغة العربية: عجِّل!.. وكل جملة مكررة مرتين، فيكون المجموع اثنا عشرة مرة، ورب العالمين ينادي عبده أقبل عليَّ بعجل!.. أنا أريدك أن تأتيني مستعجلاً!.. وعادةً هذه الحالة من الإلحاح والاستعجال تكون: إما لشدة الشوق، أو لشدة الحاجة. رب الأرباب في الأذان والإقامة كم مرة يقول عجِّل؟!.. ست مر ات : أربعة في الأذان، و إثنين في الإقامة..
لو أن إنسانا زاره عالم كبير في منزله، وفي منتصف الليل طرق عليه الباب، وقال: عجل إلي بالماء، أنا عطشان!.. ايتيني بالماء!.. ايتيني بالماء!.. فقال له: مولاي!.. أنا لست متفرغاً لك الآن، رجاءً اذهب إلى فراشك ونم، وثم آتيك به في وقت آخر!.. وبعد ساعة أو ساعتين أحضر له عصير فاكهة.. فهذا العالم كبير قطعاً سيرده قائلاً: بأني كنت أصيح قائلا حي على الماء!.. حي على الماء!.. وأنت لا تستجيب، الآن تأتيني بالعصير!.. خذ عصيرك معك، أنا لا أريده، وأنت لا تستحق أن تكون مضيفاً لي!.. وحتى الذي يسمع القصة تراه يذم فعل هذا الإنسان، ويقول بأنه إنسان في منتهى سوء الأدب.. رب العالمين عندما يدعونا فإنه هو الغني -سبحانه- وهو لا يحتاجنا: (إلهي!.. هذه صلاتي صليتها لا لحاجة منك إليها، ولا لرغبة منك فيها، إلا تعظيماً وطاعة وإجابة لك إلى ما أمرتني به..).. فلم هذا الإعراض عن رب العالمين؟..
قد يكون العبد لم يقل شيئاً يوجب التوهين، ولكن الإهانة تحققت في مقام العمل.. فالذي يسمع الأذان ويستمر في شغله ولهوه، فهو لم يوقر الأذان -وإن لم يقل ذلك بلسانه عمله أو هذا أهم عندي- فكيف إذا كان مشتغلاً بالحرام وقت الأذان؟!..
ان الإنسان الذي لا يوقر نداء الله -عزوجل- ولا يسارع إلى تلبية ندائه، فلا ينبغي له أن يتوقع الاستجابة السريعة من رب العالمين
يقال: كان هنالك حمَّال في بلدة ، رأى طفلاً يسقط من السطح فمد يد اليه، فسقط هذا الطفل على الأرض سليماً.. فاجتمع الناس حوله متعجبين: أنت من؟.. أنت ولي!.. أنت كذا!.. فقال لهم: لماذا هذا التعجب؟!..أنا أطعت ربي عمراً فأطاعني!.. أي سألته أن ينقذ هذا الطفل فأجابني، وهذا ليس بأمر غريب..
إن الله تعالى عندما يصل إلى ذكر طبيعة بني آدم، فإنه يظهر تحسره وتأسفه قائلاً: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}!.. أي الموت لبني آدم!.. إن الله -سبحانه وتعالى- بين للإنسان طريق الخير والشر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.. ولكن الإنسان بطبعه ظلوم جهول، يميل إلى اتباع الهوى والشياطين، فيردي نفسه ويهلكها.. ومن هنا فالذي لا يعمل جهده وجهاده ليرتقي بنفسه، فإن مآله إلى السقوط، كما قال -تعالى- مشيراً إلى هذا التسافل: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}.. ومن المعلوم أن الأجسام تميل بطبيعتها -لو تركت- إلى أسفل نظراً للجاذبية الأرضية، وأنها تبقى ساكنة ما لم يؤثر عليها مؤثر خارجي، يعمل على التغيير في شكلها أو اتجاهها أو محلها أو غيره.. فالذي يريد أن يغير من نفسه لابد له أن يتحرك، وإلا فإنه سيبقى على حاله وإن عملت فيه الليالي والأيام.. وهذه حجارة مكة من لدن أبونا آدم إلى اليوم، وهي على حالها، وفي محلها!..
وينبغي للإنسان أن لا يغتر بمجرد الأداء الظاهري للعبادة في الصلاة، والحج، والعمرة، والزيارة.. فالحركات الشكلية ما هي إلا حركات بدنية، لا شأن لها في تغيير جوهر الإنسان وباطنه.. ولو كان الأمر كذلك، لرأينا التغيير فيمن هم أمضوا بجوار قبر المصطفى (ص) عقوداً من أعمارهم.. فالقضية ليست بالزيارة ولا بالعمرة ولا بشد الرحال مجردة عن الحركة الباطنية المتمثلة بالتوبة والإنابة..
لو حركنا هذا الحجر الذي في مكانه قليلاً، سنكتشف هنالك آبار جوفية مهملة، وآبار بترول مقفلة.. نفس الإنسان كلها معادن نفيسة تحتاج إلى استكشاف وتوظيف، وإنما حاله كما يقول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ *** والماء فوق ظهورها محمول
إن معجزة النبي (ص) أنه عمل في هذه الأمة وغير فيها أيما تغيير، هذه الأمة التي كانت من أسوأ الأمم، والذين كانوا يصنعون إلهاً من تمر يعبدونه في النهار، وإذا ما أجن عليهم الليل وجاعوا أكلوه!.. وإذا بالنبي (ص) يبعثهم من جديد، وينقلهم من حضيض الجاهلية إلى نور الإسلام.. وإذا ببعض صحابة رسول الله (ص) يصل الى درجة يذهل الإنسان!.. كان أحدهم يقول: كنا رعاة الإبل، واليوم صرنا رعاة الشمس!.. أي عيوننا على الشمس متى تصبح في كبد السماء، لنصلي صلاة الزوال
قد يصل الإنسان بعد فترة من الإدمان على صلاة أول الوقت إلى مرحلة، لا يتمالك نفسه حتى يصلي.. وقد نقل عن أحدهم عندما يسمع الأذان يصاب بتوتر عصبي، وإذا لم يصل في أقرب مكان ممكن، فإنه يصاب بحالة انهيار!.. فهو لا يتحمل نداء رب العالمين له بالتعجيل، وهو جالس مشتغل في الأباطيل!..
قد يكون هنالك عذر قاهر يحول دون صلاة أول الوقت، كمن هو مرتبط بوظيفة أو دوام حكومي، أو كان صاحب العمل لا يسمح له أن يصلي
نقل عن أحد كبار العرفاء.. يقول: نحن اكتشفنا أو عرفنا أن الطريق إلى الله أسهل مما كنا نظن، فالقضية ليست معقدة، ولا تحتاج إلى خلوات وأوراد ورياضات وما شابه.. القضية سهلة بسيطة، والإنسان بالتفاته وبأدائه للواجبات، وبإتقانه الصلوات اليومية يصل!.. رب العالمين لم يعقد الأمور فلماذا الترهبن؟!..و لماذا التصوف؟!.. ولماذا التعقيد؟!.. لماذا جعل العرفان وكأنه شبح مخيف، لا يقترب منه أحد وإلا تتعقد حياته؟!.. الطريق مفتوح للجميع، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، والدليل على ذلك هذه النماذج المتميزة التي تراها في بلاد الغرب، أناس في قمة التقوى وقمة الذكر.. سُئل أحدهم إن كان يشتكي من فتنة النساء -كما هو المتعارف في تلك الأوساط من حالات التعري والانحطاط– وإذا به وكأنه يستنكر عليَّ هذا السؤال، ويفهم منه بأن هذه مشكلة المراهقين، وهو قد تجاوز هذه المرحلة، وأنه يحمل هما أكبر من هذه الفتنة، همه الإقبال والإدبار وقساوة القلب، أما فتنة النساء فهو لا يرى شيئاً أمامه من النساء!..
- ينبغي أن نقول بكل قاطعية: إن الذي لا يوقر نداء رب العالمين، ولا يصلي أول الوقت، هذا الإنسان لا يعطى الهبات المتميزة من رب العالمين، لأن هذا بلسان حاله كأنه يقول: يا رب لا أريد منك عطاء متميزا!..
ومن المناسب التأني قبل الدخول في الصلاة، وقراءة الأذان والإقامة، وبعض أنواع الأدعية المسخنة، التي تصفي ذهن الإنسان، وتجعله في جو الصلاة.. (إن صلاتي ونسكي محياي ومماتي لله رب العالمين..).. (ربي اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي..).. ( ربي أقمها وأدمها واجعلني من خير صالحي أهلها..)..
من موجبات التفاعل في الصلاة، هو تذكر الذنوب السابقة، فلو رأى الإنسان نفسه غافلاً وهو في الصلاة، لا بأس أن يذكر نفسه ببعض الهفوات التي ترتعد لها الفرائص، وعندها يلين قلبه، على الأقل يتذكر حدته مع خلق الله وإساءته لهم.. وتذكر الذنوب في بعض الأوقات أمر مستحب، ولكن ينبغي أن لا يتحول إلى حالة يأس، فإن ذلك من الكبائر العظيمة، شأنه شأن الكبائر الأخرى.. والله -سبحانه- وتعالى قرر مغفرته لعباده، بأنه يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يشرك به: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.. إن أداة تأكيد، وفي اللغة العربية: الجمع المحلى بأل يفيد العموم.. لم يقل: ذنب، ولا ذنوب، ولا الذنب، بل قال: الذنوب.. أي لا يوجد ذنب لا يغفره الله -تعالى- ما دام ذلك الذنب دون الشرك.