المنهج الحركي للهجرة النبوية
- حكمة القيادة وعبقرية التخطيط عوامل لازَمت الهجرة
- التحام القاعدة بقيادتها من واجبات الحركة الإسلامية
- التوكل و تقبل قضاء الله وقدره أهم الدروس
أعدَّه للنشر بتصرف: إسلام عقل
خريطة طريق الهجرة
تناولت كتب السيرة أحداث الهجرة ووقائعها وأشخاصها، ولعل المهتم بدراستها يرى في كتاب (المنهج الحركي للهجرة النبوية) لمؤلفه منير الغضبان تناولاً مختلفًا يربط أحداث الهجرة ودروسها بكل ما حدث وما سيحدث، وما يمكن أن يتعلق بالحركة الإسلامية، فتتفاداه في المستقبل.
وقد أوضح المؤلف- في مقدمة كتابه- الباعث الرئيس الذي دفعه أن يكتب عن السيرة بهذا الشكل المختلف فيقول: "أما فكرة المنهج الحركي للسيرة فقد انبثقت في الفكر انبثاقًا يختلف عن الأصل الذي كنت أفكر فيه، لا أزال أذكر في بداية الستينيات عندما طلع علينا الشهيد سيد قطب- رحمه الله- في كتابه (معالم في الطريق) وكان نقطة تحول حساسة في الفكر الحركي الإسلامي، وقفتُ مليًّا أمام هذه الفقرة (والسمة الثانية في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية، فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظرات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجددةٍ، والذين يسوقون النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذين يصنعون هذا يخلطون خلطًا شديدًا ويُلبسِون منهج هذا الدين لباسًا مضللاً، ذلك أنهم يعتبرون كل نصٍّ منها كما لو كان نصًّا نهائيًّا، يمثل القواعدَ النهائيةَ في هذا الدين، ويقولون- وهم مهزومون روحيًّا وعقليًّا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان-: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع أو يحسبون أنهم يُسدُون إلى هذا الدين جميلاً بتخليهم عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعًا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة".
وهنا نستعرض من كتابه القيم ما يتعلق بحادثة الهجرة، يقول المؤلف تحت عنوان (اختيار الأرض وسرية التجمع فيها والهجرة إليها): يقول ابن إسحاق: "فلما أذن الله تعالى في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن تبعه وآوى إليه من المسلمين أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكةَ من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحاق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأتمنون فيها، فخرجوا وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه بالخروج من مكة والهجرة إلى المدينة".
لقد قيلت مثل هذه الكلمة من رسول الله للمسلمين يوم دعاهم للهجرة إلى الحبشة "إن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد"، أما اليوم فقد جعل الله لكم إخوانًا ودارًا تأمنون فيها.
والفرق بين المركزين والمنطلقين واضحٌ من حيث الموقع؛ حيث نجد الحبشة بعيدةً ولا تصلح لتكون مركزًا لإقامة الدولة بعيًدا عن الأرض والبيئة العربية، ومهما قَوِيَت فستبقى محصورةً ضمن إطار المهاجرين أنفسهم، والحركة ستكون مشلولةً للمواجهة، بينما نجد المدينة وإن كانت بعيدةً عن مكة لكنها تحتل موقعًا حسَّاسًا بالنسبة لمكة، فهي قادرةٌ على خنق مكة اقتصاديًّا؛ لأن طريق قوافل قريش عليها، والتجارة عصب الحياة لقريش، كما أن البيئة واحدة والعرب يمكن أن تتمَّ الدعوةُ في صفوفهم وأن يتقبلوها.
ومن حيث البيئة فالاعتماد في الحبشة على الحاكم العادل الذي قد يتغير في أية لحظة فيصبح المسلمون على خطر داهمٍ، وقد رأينا أن ذلك قد وقع فعلاً حين قامت الثورة ضد النجاشي، فهيأ للمسلمين سفينتين ليغادروا الحبشة إن تم النصر لعدوهم، وهو يعلم أن المسلمين هم المستهدفون من هذه الثورة.
والحركة الإسلامية لا بد أن تراعي أنها حين تبحث عن الأرض ليست دائمًا تملك الحرية التي تريدها للاختيار، فقد تضطرها الظروف إلى مكانٍ غيرِ مناسبٍ تمامًا، ولا بد لها من قبوله ريثما تجد المكان الأفضل.
لقد بقيت الحبشة مأمنًا للمسلمين فترةً طويلةً، حتى بعد وجود يثرب، ولكنها لم تكن مركزًا لإقامة الدولة، وحين أُتيحت الظروف في المدينة كانت، فتوفيقٌ ربانيٌّ أن قَبِل وفد الحجيج اليثربي الإسلامَ، فلو فشلت المفاوضات مثلاً في الحماية أو نجحت محادثات "شيبان" أو "كندة" لكان الموقع متغيرًا حسب المعطيات القائمة، وأدَّى هذا إلى رحيل عائلات بأكملها، فقبيلة بني غنم رحل أربعة عشر رجلاً منها وسبع نسوة لمجرد الإذن بالرحيل، كما تحرك عمر- رضي الله عنه- وأهله وحلفاؤه، وتتابع المسلمون يهاجرون، فلا يحس المشركون إلا وهم خارج مكة.
يتبع..