حياكم الله
الشباب في السيرة النبوية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه.
وبعد،
فإن الشباب هم عماد الدعوات، وقوام النهضات، إنْ حملوا رسالةً نشروها، وإنْ آمنوا بدعوة أظهروها، ولست تجد أمةً في التاريخ نهضتْ بعد كبوة أو قويتْ بعد ضعف، أو عزَّتْ بعد ذل؛ إلا بعد أن تمتلئ نفوس شبابها برسالة واضحة، فيقدِّمون أنفسهم وقودًا لنشر رسالتهم، وفداءً لعزة أمتهم، يقول ابن كثير في التعليق على قوله تعالى في شأن أصحاب الكهف { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }الكهف:13، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبلُ للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين عَتَوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) شبابًا، وأمَّا المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا.
لقد كان الشباب هم العدد الأكبر في المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمتبعين له، بل وأكثر أصحاب الأدوار المهمة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهاك بعض الأمثلة:
العشرة المبشرون بالجنة:
فأمَّا الصديق أبو بكر وعثمان (رضي الله عنهما) فكانا دون الأربعين حين آمنا برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأمَّا عمر وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهما) فكانا في نحو الثلاثين حين آمنا برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأمَّا على (رضي الله عنه) فكان في نحو العاشرة من عمره، وكان أبو عبيدة بن الجراح في نحو العشرين من عمره، وكان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وسعيد بن زيد (رضي الله عنهم) دون العشرين، بل كان سعد بن أبى وقاص (رضي الله عنه) ابن سبع عشرة سنة يوم أسلم، وكان ابن مسعود (رضي الله عنه) شابًا صغيرًا دون العشرين يوم أسلم، وقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) يومئذ: «إنك غُلَيِّمٌ مُعَلَّم».
السبعة المكثرون من الرواية: كان سائر السبعة المكثرين من رواية الحديث والذين جاوزت مروياتهم الألف حديث لكل راو جميعًا عند وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) دون الثلاثين من العمر: فأبو هريرة (رضي الله عنه) الذي روى (5374) حديثًا كان في نحو السابعة والعشرين، وعبد الله بن عمر الذي روى (2630) حديثًا كان ابن إحدى وعشرين سنة، وكان أنس بن مالك (رضي الله عنه) الذي روى (2286) حديثًا في العشرين من عمره، وكانت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) التي روت (2210) حديثًا بنت ثماني عشرة سنة، أمَّا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) الذي روى (1660) حديثًا فلم يتجاوز عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الثالثة عشرة من عمره، وكان عمر جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) الذي روى (1540) حديثًا حوالي سبعة وعشرين سنة، وأمَّا سابعهم أبو سعيد الخدرى (رضي الله عنه) الذي روى (1170) حديثًا فكان في نحو العشرين من عمره، وتبعهم عبد الله بن مسعود الذي قاربت مروياته الألف حديث، وعبد الله مسعود الذي بلغت مروياته حوالي سبعمائة حديث، وكانا دون الأربعين عند وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).
فهؤلاء المذكورون رووا أكثر من ثلثي السنة النبوية، أي أنهم حملوا إلينا معظم الدين، وهاك نموذجاً من دأب أولئك الشباب في جمع العلم، وحفظ السنة، وصيانة الشريعة.
كان ابن عباس (رضي الله عنهما) شديدَ الذكاء، بعيدَ النظر، مدركًا منذ حداثة سنه للرسالة التي يجب عليه أن يقوم بها في خدمة دين الله، ومن أهم ما التفت إليه، واهتم به حفظ السنة على المسلمين، والقيام بدور الوسيط بين كبار الصحابة الذين عايشوا النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعلموا منه، وحفظوا أحواله وأقواله، وبين الأجيال اللاحقة التي ستحتاج لهذا العلم، ومن ثَمَّ أخذ يتردَّد على كبار الصحابة، بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويتلقى عنهم، وجعل يدعو شبابَ الصحابة لمتابعته في القيام بهذه المهمة العظيمة، فعنه (رضي الله عنه) قال: «طلبتُ العلم فلم أجده أكثرَ منه في الأنصار، فكنتُ آتى الرجلَ منهم، فأسألُ عنه، فيُقال لي: نائم، فأتوسَّدُ ردائي، ثم اضطجعُ، حتى يخرجَ إلى الظهر، فيقول: متى كنتَ هاهنا يا ابنَ عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فأقول: منذ طويل، فيقول: بئس ما صنعت! هلا أعلمتني؟ فأقول: أردتُ أن تخرج إليَّ وقد قضيتَ حاجتك».
وفى رواية قال: «وجدتُ عامَّة علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند هذا الحيِّ من الأنصار، إن كنتُ لأَقيلُ عند باب أحدهم، ولو شئتُ أن يُؤذَن لي عليه لأُذن، ولكن أبتغى طيبَ نفسه».
وقال أيضًا: «لما تُوفى رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) قلتُ لرجلٍ من الأنصار: يا فلان، هلمَّ فلنَسأل أصحابَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنهم اليوم كثيرٌ. فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) مَن ترى! فتركتُ ذلك وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديثُ عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسَّد ردائي على بابه، فتسفي الريحُ على وجهي الترابَ، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابنَ عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فبقي الرجلُ حتى رآني، وقد اجتمع الناسُ عليَّ، فقال: كان هذا الفتى أعقلَ مني».
وإن تعجب من اجتهاده في الطلب فعجبٌ هذا الأدبُ الرفيعُ في طلبه للعلم، واهتمامه العظيم براحة شيوخه، وحرصُه على عدم إملالهم، حتى يستخرج ما عندهم، ومن ثَم كانوا يُسرُّون بقربه وإسماعه، ومن ذلك قوله: «ما حدثني أحدٌ قطُّ حديثًا فاستفهمتُه، فلقد كنتُ آتي بابَ أبيِّ بن كعب وهو نائمٌ، فأقِيل على بابه، ولو عَلِم بمكاني لأحبَّ أن يُوقَظ؛ لقربي من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولكني أكره أن أُمِلَّه».
الفقهاء والمفتون من الصحابة:
كان أكثر فقهاء الصحابة من الشباب، وفي مقدمتهم عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) الذي كان أكثر الصحابة فتوى وأوسعهم فقهًا، حتى كان عمر (رضي الله عنه) يجلسه وهو شاب صغير مجالس الكبار من أهل بدر وغيرهم، ويقول: إن له لسانًا سئولاً وقلبًا عقولاً، والذي جمعت فتاواه فبلغت سبعة أسفار كبار، وتبعه في الفقه وكثرة الفتوى عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما)، وقد عرفت أنهما كانا من شباب الصحابة، فإذا نظرنا إلى المشهورين بالعلم والفقه من غيرهم رأينا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) الذي كان ابن بضع وعشرين حين أرسله النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن مفتيًا وقاضيًا، وكان حين أسلم ابن ثماني عشرة سنة، وشهد بيعة العقبة وهو شاب أمرد، ووصفه النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وكان أحد المفتين في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأحد حفظة القرآن كاملاً في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن هؤلاء الفقهاء: زيد بن ثابت، الذي وصفه النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنه أفرض المسلمين، يعني أعلمهم بالفرائض، الذي أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة، والذي بعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) ليتعلم لغة يهود ليقرأ له كتبهم، فتعلمها في سبع عشرة ليلة، وكان أحد الذين حفظوا القرآن كله في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم حمَّله أبو بكر وهو ابن إحدى وعشرين سنة مسئولية جمع القرآن وهي من أخطر المهام على الإطلاق، فكان أحق بها وأهلها، وكان أحد المفتين من الصحابة، وأمَّا فقيهة النساء عائشة، فكانت في الثامنة عشرة من عمرها حين توفي النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد كان الصحابة يرجعون إليها فيما أُشكل عليهم، وما سألوها عن شيء إلا وجدوا عندها منه علمًا، وغير هؤلاء كثير من الفقهاء كانوا من شباب الصحابة.
قادة الجيوش وحملة الألوية:
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا ما يبعث لقيادة السرايا الحربية، ولحمل ألوية الجيش الإسلامي شبابًا من الصحابة: فقائد ثاني سرية بعثها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) وهو ابن بضع وعشرين سنة، بعد تسعة أشهر من الهجرة، وهو نفسه حامل اللواء في غزوة بُوَاط بعد أربعة أشهر من تلك السرية، وكان علي بن أبى طالب (رضي الله عنه) ابن ثلاث وعشرين حين حمل لواء النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة سَفَوان، وبعد أقل من سنة حمل اللواء في غزوة قَرقَرة الكُدر، وكان دون الثلاثين حين حمل اللواء في خيبر ففتح الله على يديه، وأوضح مثال على ذلك بعث أسامة بن زيد وهو دون العشرين على رأس جيش فيه أبو بكر وعمر قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وغير هؤلاء كثير.
وهكذا لو ذهبتَ تستقصي الصحابة من الشباب الذين كانت لهم أدوار مهمة لطال بك الاستقصاء، فقد كان غالب المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الشباب الحديثة أسنانهم، المؤمنة قلوبهم، الذين فهموا طبيعة دورهم وحقيقة رسالتهم، فانطلقوا يحملون الرسالة على هدى، ويسيرون بها على بصيرة، حتى طبقوا الآفاق بدعوة الحق، ونشروا الدين في ربوع الأرض، وحققوا لأمتهم العز والتمكين في كل ميدان.
وهذا هو الأمر الذي يجب أن يستمسك به شبابنا، فيتخذون من هذا النَفر الكريم من الشباب قدوتهم، ويجعلون من هذه السيرة الكريمة الشامخة لهذا الجيل عنوانًا لهم { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
دمتم