ركن التّجرد والمفاصلة الدعويّة

ركن التّجرد والمفاصلة الدعويّة

¨¨ أورد ابن القيم الجوزيّة في "بدائع فوائده" خبرًا رمزيًّا طريفًا، لعلّه قد استفاده بدوره من عند أبي الفرج ابن الجوزيّ الذي ذكره في كتابيه "المدهش" و"المنثور" ومفاده:

أنَّ فأرةً مُتيَّمَةً رأَتْ جَمَلاً من الإبل الرواحل، فأعجبَها حسنُه وجمالُه، فقامتْ تبغي جرّه من خِطَامَه، فَأمْكَنها هو من نفسه، ثم لاَنَ لها، وتَبعها إلى حيث تُريد به، إلى أنْ بلغتْ باب دارها، فحينئذ وقفَ الجملُ، وناداها بلسان الحال أنْ يا أيّتها الفأرة المسكينةُ، إمّا أن تتَّخذي داراً تليقُ بمحبُوبـِكِ، أو محبُوبًا يليقُ بداركِ.

وهو هكذا أنت أيّها "الداعية المسلم" حين تنتمي إلى جماعة الخير "زمرة القلب الواحد"، أو حين تجعل صفقة يدك في أيدي الدّعاة، ينبغي لك بمقتضى ومنطق قانونِ (إمّا..وإمّا) -الذي صارح به الجمل فأرته- أن "تتجرد" من كلّ "فكرة" سوى فكرة دعوتك التي آمنت بها وعاهدت على نصرتها.

وهذا "التجرد" الذي نقصده هو "قانون المفاصلة الدعوية" الذي سيتولى هذا المقال بعون الله تعالى شرح بعض معانيه، وقد سبق أن عرّفك "الأستاذ يَكَنْ" رحمه الله تعالى وغيره من نبلاء الدعاة "ماذا يعني انتماءك للإسلام"، وشرحوا لك معنى "قانون المفاصلة الإيمانية" الوارد في مثل قوله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

ونحن لا نريد بهذا المقال بيان ذلك، إذ المظنُونُ أنّه من معاني البدايات التي وعاه الدعاة وأدركوا مفادها منذ أيّام بداياتهم المشرقة، وإنمّا غايتنا أن نهديك معنًى أخر من معاني " المفاصلة والمصاحبة "، والتي وإنْ لم يُوصف أطرافُها بأوصافِ الإيمان والكفر، إلاّ أنهم قد يوصفون بأوصاف التّعقل أو السّفه، والوفاء أو الغدر، والإنابة أو التّخليط..

وهذا المعنى الذي ندندن عليه هو ذات المعنى الذي قصده الإمام الشهيد من ركن " التّجرد " الذي قال عنه الإمام ((أريد بالتّجرد أن تتخلصَ لفكرتك ممّا سواها من المبادئ والأشخاص..))، وقد ظهر لي من مخالطتي لكثير من الدعاة أن أكثرهم لا ينتبه للمعاني الدقيقة الفارقة بين "ركن التجرد" و"ركن الإخلاص"، وإن كان في ركن التجرد شائبة من معاني الإخلاص. والمعنى الجامع بينهما أن التّجرد إخلاصٌ للدعوة وقيادتها، و"الإخلاص" باق على أصل معناه الذي قال عنه الإمام ((وأريد بالإخلاص أن يقصد الأخ المسلم بقوله، وعمله، وجهاده كلّه، وجه الله، وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته، من غير نظر إلى مَغْنمٍ، أو مَظهرٍ، أو جاهٍ، أو لقبٍ، أو تَقدُّمٍ، أو تأخر..)) ولقد أدرك جيدا هذا المعنى الشاعر الداعية عبد المعطي الدالاتي حين قال:

لا.. لن يعوقَ مسيرتي في الدربِ لهوٌ، أو خَطيَّهْ
أحيا بظل عقيدتي حتى أُسَرْبلَ بالمنيّهْ
لعقيدتي ما قد مضى من رِحلتي.. ولها البقيّهْ

q إنّما المتابعةُ للمنيبينَ لا المخلّطين

ذكر ابن عَجيبة الفاسي في تفسيره " البحر المديد " عند قوله تعالى { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليّ } أنه تعالى قد: (نهاهُ عن متابعة المخلّطين وحثّه على متابعة المـُنيبين)، وفي تفسيرها أيضا يقول ابن عطاء الله: (صاحبْ من ترى عليه أنوار خدمتي).

وهذه الآية تكاد تكون أصلا شرعيا يؤصل لمتابعة طريقة الشيوخ العارفين، والدعاة الصادقين، وتخصيصُهم بالذكر في قوله (سبيل منْ أناب إلي) فيه ما فيه لمن رُزق التأمل والتواضع، ولو أراد تعالى أن يقول (واتبع سبيلي) لقالها سبحانه ولكنه أشار لك، فافهم.

ولهذا المعنى وجدنا الإمام الشّهيد في رسائله يصيح في ثقة تامة قائلا:

(..فمن تَبعنا الآن فقد فازَ بالسَّبق، ومن تقاعدَ عنّا من المخلصين اليوم، فسيلحقُ بنا غدا، وللسّابق عليه الفضل، ومن رغب عن دعوتنا، زهادة، أو سخريّة بها، أو استصغارا لها، أو يأسا من انتصارها، فستثبت له الأيام عظيم خطئه، وسيقذف الله بحقّنا على باطله فيدمغه، فإذا هو زاهق، فإلينا إلينا أيّها المؤمنون والعاملون والمجاهدون المخلصون فهنا الطريق السواء....)

وهذا المعنى الأصيل لم يدركه بعض "الواهمين" الذين وجدناهم سُرعان ما ضاقوا ذرعًا من مقتضيات التَّصاحب الدَّعوي، ونكثُوا عهودهم بالتزام واجبات السَّمع والطاعة في المعروف " لقيادة الدعوة"، التي أعطوها بالأمس القريب عن رِضًى ومن غير إكراهٍ ولا جَبْرٍ، وزعموا أن قرارات "الجماعة" ليست قرآنا، ولا وحيًّا منزلاً، وزهدوا فيها، وسَخِرُوا من المؤسسات التي أصدرتها، واستصغروها، وسذّجوا مدْرك اجتهادهم، ولم يبصروا الصواب الكامن فيها، وأطالوا ألسنتهم بالسُوء، وفَلْسَفُوا اختياراتهم، ورفعوا شعار "الانفتاح"، وزعموا أن "التنظيم" عائقٌ، والسَّاحة واسعةٌ، والاجتهادات كثيرة، ..وهكذا هي دائما فلسفة المخلّطين.

q فلسفةُ التَّخليط وفعل الترهات

وقد أوجز لك شاعرنا الفيلسوف محمّد إقبال فلسفة أهل التّخليط في بيتٍ واحدٍ من رجزه الجامع للمعاني والرموز لمن أنعمَ النَّظر فيه وأمْعن، قال رحمه الله تعالى:

ظَبْيُنَا خَافَ سَوادَ الكَعْبَةِ *** فَرَمَاهُ صَائِدٌ في الثُّغْرَةِ

وتخيلْ أنت أيها الداعية ظبيًا كان يَنْعمُ دهرًا طويلاً في جوار الكعبة المشرفة وحَرَمِهَا الموقّر، حتّى حدَّثَتُه نفسه أن السّاحة واسعة، وأن ألوانها كثيرة وزاهية، ..فخرج يركض من نطاق " الحَرَم المكيّ "، وزعم أنّه قد مَلَّ لون السَّوادَ الذي يُغطي أستار " الكعبة "، وأراد بزعمه أن يملأ عينيه الجملتين بألوان أخرى أزهى من لون الكعبة، فلم يبرح إلاّ قليلا حتى رأى لون دمه الأحمر يسيلُ من ثُغرته، بعد ما قنصه صيادٌ ماهرٌ، اهتبل فرصة خروجه من الحرم المكي فصاده برميةٍ لم تخطئه.

ولقد ذكّرني تطلعُ هذا الظبي الجفول بقول الشاعر عبيد الله بن الرقيّات:

ألاَ أبْلِغْ أبَا إسحاقَ أنّي *** رأيتُ البُلقَ دُهمًا مُصمَتاتِ
أُرِيعَينيََََََََّمَالمتَرْأياهُ*** كِلاَنَاعــــارفٌبالتًّرَّهاتِ

وذلك هو مثل " المخلطين "، وتلك هي " ترهاتهم"، ضاقوا ذرعًا من قرار " التنظيم " فسموه سوادًا وظلمًا- وما هو بسواد ولا ظلمٍ، ولكنّها "الصرامة الحازمة " التي لا يقوم أيّ تنظيم في الدنيا إلاّ بمقتضياتها - وزعموا تارةً أن التزامات الانتظام تُنافي معاني الكرامة، وأشواق الحرية، وطلاقة الاجتهاد، وسعة الاختيار..، وزعموا أخرى أن " تنظيمنا الميمون " قد أصبح مُثْقلاً بأعبائه ومشكلاته، وسينتهي قريبا ويتلاشى تحت قانون التجديد الذي خَبروه ودرسوه ؟؟.

q لأجل الترهات هجرنا الاسم القديم

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قولها (( قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى ». قَالَتْ: فَقُلْتُ وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ. قَالَ «أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى، قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ». قَالَتْ: قُلْتُ أَجَلْ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ)).

ونحن أيضا في قطرنا هذا، حين ضاق صدرنا من ضخامة التَّخليط الذي أحدثه بعض إخواننا، وطرأ على خطة سيرنا في " حركة الأمس "، هجرنا اسمها وهيكلها، واجتهدنا طيلة تلك " المرحلة الانتقالية " في تربية أنفسنا، وتذكير إخواننا بضرورة الاجتماع على كلمة سواء، حتى نحقق فيها جميعا معاني ركن " التجرد " للفكرة والمنهج والقيادة.

ولكننا اليوم بعد أن ارتفع الخلاف، وترسّم الاستخلاف، ندعو أنفسنا والبقية الوفيّة "المنْتَظرة " لا " المنَّظِرة" من إخوتنا في " حركة الأمس " إلى ضرورة التجرد للفكرة، والانسلاك معنا في المشروع الجامع للصفوف والقلوب، الذي سيجعلنا جميعا إن شاء الله تعالى على خُطى ومنهج المنيبين، ويُمَكّننا من تحقيق واجباتنا الدعوية المتكاملة التي ستجعل كلمة الله تعالى هي العليا في هذا القطر من أقطار عالمنا الإسلامي ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

أمّا من استنكفَ عنَّا، وعن مقتضيات هذا الخيار، وحَزْم ذلك القرار، فعليه أن يلتمس لنا الأعذار، وأن يختار بعد ذلك ما يشاء من مناهج ومشاريع تليق بدور " الفئران"، وعلى جميع المتجردين أن يفاصلوه دعويّا وأن يتمايزوا عنه، ويبقى له علينا حق الإخاء العام، وربمّا تجمعنا وإيّاه الأقدار في ساحة التّعاون الواسعة.ومع خالص التحية والسلام.

بقلم أ.خونا أحمد محمود

الجزائر الأربعاء 03 نوفمبر 2010م

السلام عليكم
بروكت اخي محب الاخوان على المجهودات المبذولة كما لا يفوتني ان اشكر استاذنا خونا على مواضيعه المنيرة
التجرد للفكرة ركن من الاركان العشر ،و الأخ قبل الانفتاح -كل في موقعه- همه الوحيد هو الدعوة لفكرته و الدفاع عنها سرا و علانية، فكانت ثمارها امتلأت المساجد بالشباب بعد ما كان عمارها الا الشيوخ، اندثار بعض السلوك و البدع المسيئة للاسلام،اعادة بعث فكرة وجوب تطبيق شرع الله عزوجل و الامتثال له،اقبال كبير للشباب في النوادي و الجمعيات ذات التوجه الاسلامي،... .و لما اهمل ركن التجرد و غطيناه -ان صح التعبير- بالاخلاص تسلل المتسللون و انتهزوا الفرصة ليفرغوا الحركة و أبناءها من منهج الجماعة و افكارها بالانفتاح تارة و باسم اهل مكة ادرى بشعبها و تارة اخرى -والعياذ بالله- بنشر اشاعات بوجود خلافات مكتب الارشاد
و الله اكبر و لله الحمد

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته:
مقال آخر يتحفنا به الأستاذ أحمد كعادته ، فكلامه : إبداع في الأسلوب ، وعمق في المعنى ، ورسائل ثاقبة ....حفظه الله ونفع به إخوانه في جزائرنا الحبيبة.

اللهم أأأأأأأأأأأأأأأأأأمين يارب العالمين

جزاك الله كل خير أخي على نقل المقال مقالة في القمة

حفظ الله أستاذنا أحمد

بارك الله فيكم على هذا النقل

موضوع جد رائع و مهم

الله يكرمكم و في ميزان حسناتكم