موضوع الثلاثاء ... روح الجماعة-1-
بقلم: الشيخ/ حجازي إبراهيم ثريا
إن تاريخَ أيِّة أمة يرتبطُ بقدرِ ما أنجبت من رجالٍ أصلحوا الفاسدَ، وأقاموا المعوجَ، وسددوا المنحرفَ، وخلفت لمن بعدها تراثًا تنعمُ به وتفخرُ، وللأجيال المتعاقبةِ نورًا يستضاءُ به، ودواءً يستطابُ به، وهل تاريخُنا كأمةٍ إسلاميةٍ إلا تاريخُ الجيلِ القرآني الفريدِ الأولِ، ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا..؟
وجماعة (الإخوان المسلمين) امتداد لهذا التاريخ المجيد، قامت لتبعث الحياة في الأمة من جديد، كما قال الإمام البنا مخاطبًا لهم: ".. ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة، فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق، فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داوٍ يعلو مرددًا دعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم-.. ومن الحق الذي لا غلو فيه، أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس".
أخي في الله..
هذه كلمات حية بعد وفاة كاتبها رحمه الله الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد- عميد طلاب الإخوان المسلمين، أو كما قال آخرون: "أبو الطلاب الإخوان" يقول رحمه الله تحت عنوان: روح الجماعة:
ما الجماعة التي نريد؟
هل نعني بالجماعة مطلق الأعداد؟ أو نقصد بها كثرة الأفراد؟ أو هي صورة الجماعة، وهيكل البناء؟
هذه معانٍ واحتمالات يسبق الفهم إليها، وتصلح للتأويل والتصوير.. فهل إلى شيء منها نقصد؟
لا نعني بالجماعة مطلق الأعداد، ولكن معنى الأعداد.. ولا نقصد كثرة الأفراد، ولكن "روح" الجماعة وحقيقة البناء!.
وإذا كانت الجماعة فيما نقصد: وحدة، ومعنى، وروحًا، لا كثرة وصورة ولفظًا.. فما نعني بالوحدة، والمعنى، والروح إذن؟
نعني بالوحدة: قوة المزج.. ونقصد بالمعنى حقيقة المزج.. ونريد بالروح عمل المزج.. إن الجماعة "وحدة" فهي كثرة "كيف".. وإنها "معنى" فهي قوة فعل.. وإنها روح فهي "حياة" تمشي على الأرض!.
روحُ الجماعة لا يسري في الآدميين فحسب، بل العجماوات! كذلك، وعِرْقُ الجماعة لا ينبض في الأناسي فقط، بل في الماء والشجر، ونَفَسُ الجماعة لا يتردد في البشر وحدهم، بل في الجماد والحجر!.
إن الأغنام أضعف العجماوات في قوة معنى الجماعات، حتى إن الجزار لا يهوله كثرتها! ولكن الذئب يهابها "مجتمعة" ويطمع فيها "منفردة" ولا يأكل منها إلا الشاة القاصية!.. والنحل في الجو "أشتات" وعصائب متفرقة، ولكنه في الخلية "ملكة" ودولة.. وإن الماء لا يكون ماءً بعناصره، بل بامتزاج عناصره.. والبحر ليس بقطراته، وإنما هو باجتماع قطراته! وليست الحديقة الجميلة أرقامًا من شجر، وإنما هي "نسق" من شجر "وطاقة" من زهر وثمر! وما كانت الصخور والأحجار في طباق الأرض إلا إلفًا من ذرات، ونظام من عناصر!
وإن للجماعات لإكسيرًا خفيًّا، هو روح نظامها، ذلك هو الحب، روح وحدتها في وحدة روحها!".
وقفة مع مكنون هذا الكنز
الجماعة كائن حي
أخي في الله: إن الجماعةَ كائنُ حيٌّ، ذو رأس وجسد وأعضاء وجوارح، وأجهزة عصبية، وإن أعضاءها متصلة متلاصقة، ورأسها يصدر رسائله وأوامره عبر جهازه العصبي المتواصل مع كل الأعضاء، بمعنى أن أفرادَ الجماعةِ استحالت جسدًا واحدًا، امتزجت رؤوس أفرادها، فصارت رأسًا واحدًا، والقلوب تعارفت وتلاصقت، والأيدي اتحدت فصارت واحدة، وكذا الأرجل وسائر الجوارح، ذاب الأفراد وتلاشت "الأنا" و"الأنانية" وعظمت الجماعة، وسرى بينها إكسير الحياة "الحب" و"الإيثار" ميراثنا من الأنصار: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)﴾ (الحشر).
إن هذا الفهم يوحّد الفكرة والكلمة والحركة بين أفراد الجماعة، حيث ترى الأخ في الشمال يتحدث كما الأخ في الجنوب، وما التقت أجسامهم، ولكن تلاقت أرواحهم، فنطق كل منهم بالصحيح من الفهم.. وترى الأخ في نصف الكرة الأرضية، يتحرك نفس حركة الأخ في النصف الآخر، وما جمعهم مكان.. ولكن دبت في أجسامهم روح الإسلام، فوحدت منهم الوجهة والحركة.
وما أقرب الشبه بين حركة الفرد مع الجماعة، بحركة المسلم في صلاة الجماعة، وحدة القيادة متمثلة في الإمام، ووحدة الحركة متمثلة في حركة الأفراد التابعة لحركة الإمام، فإذا ركع ركعوا وإذا سجد سجدوا، والبركة في صلاة الجماعة مضاعفة، وثمرة الحركة في الجماعة مضاعفة.
وإن هذا ليعطي الجماعة قوةً لا تقهر، إن تكلمت فصوت مدوٍ مجلجل، وإن تحركت فصف مرصوص لا ينفذ منه أحد، ولا يوقفه شيء.. ويصف الإمام البنا- رحمه الله- دعوة (الإخوان المسلمون) فيقول:
"هادئة.. لكنها أقوى من الزوابع العاصفة.. متواضعة.. لكنها أعز من الشم الرواسي.. محدودة.. لكنها أوسع من حدود هذه الأقطار الأرضية جميعًا.. خالية من المظاهر والبهرج الكاذب.. ولكنها محفوفة بجلال الحق، وروعة الوحي، ورعاية الله.. مجردة من المطامع والأهواء والغايات الشخصية والمنافع الفردية، ولكنها تورث المؤمنين بها والصادقين في العمل لها السيادة في الدنيا والجنة في الآخرة".
المزج بين أفراد الجماعة
سر قوة الجماعة تتحقق بقوة المزج بين أفرادها، كالمزج بين جزيئات الهواء فيتكون الماء، فيتحقق الانتفاع به ولو بقي الأكسجين والهيدروجين منفصلين لما تحققت بهما الحياة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء: من الآية 30).
وهكذا مهما كان صلاح الأخ وتقواه يبقى أثره محدودًا، ونطاقه ضيقًا، ما بقي محصورًا في الـ"أنا" ولا يتحقق به نصرة الإسلام وإعزاز أهله، ألا ترى أن ما يموت بالجسم من خلايا يتجدد بأخرى تحل محلها، وأن ما يموت من كرات بالدم يتولد غيرها، وأن الله زود كل جسم بما يحفظ عليه حياته، وهكذا الجماعة الموصولة بالله، المخلصة في حمل راية الإسلام، الله يصطفي لها من الناس من يسد فراغ من أتعبه الطريق، أو أقعدته المشقات، أو صرفته الأهواء، أو غلبته نفسه.. أو خدعه زخرف القول، أو أرهبه الوعيد، أو أسال لعابه الوعد.
ومع كل الآلام والألم الذي ينزل بالجماعة من العدو والصديق، ومع الحرب الشعواء التي جندت لها كل القوى العالمية وسخرت لها كل وسائل أعلامها، وقوات أمنها.
مع كل ذلك فإن الجماعة المسلمة ولود ودود، والدماء في شرايينها تتجدد، والأصفياء من أبنائها: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: من الآية 23).
ومع كل ذلك فإن الناس من حولهم يرون فيهم الأمل المرتقب، ومنهم من يلحق بركبهم على الرغم مما يراه من الاضطهاد والسجن والتعذيب والحرمان، والعناء الذي ينتظرهم بالسير في هذا الطريق، ومنهم من يؤيد ويحب ويؤازر.
والجماعة تشفق على أبنائها وترأف بهم، وتحرص على التراب الذي يمشي عليه أعضاؤها، وتأبى أن تفرط فيمن عرفتهم، وحبالها دائمًا إليهم موصولة، ولو تنكروا لها، وأيديهم إليهم ممتدة، ولو آذوها، وبابها مفتوح على مصراعيه لمن يؤوب مهما كان منه.. كل ذلك في غير مِنَّةٍ ولا أذى.. وغايتهم من ذلك أن يصفح الله عنهم ويغفر لهم: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور: من الآية22).
العضو المنفصم يموت
وليعلم كل مسلم أن الأعضاء القوية، والسواعد الفتية، إن بترت وانفصمت عن جسمها، فإن وظيفتها تتعطل، وأن تلك الأعضاء حين يعتريها الشلل، تصبح عبئًا على الجسم، وقد تبذل المحاولات لإعادة الحركة إليها، ونفخ الحياة فيها، حتى إذا استيأس الأطباء، وأعيتهم الحيل، ولم يعد في جعبتهم دواء، وسرى لديهم خوف ووجل أن يتسرب الشلل إلى ما يجاوره، تراهم في لحظة يقررون أن البتر ضرورة للمحافظة على كيان الجسم.. هذا قد يكون مع الجماعة ككائن حي مع فارق جوهري يتجلى في أن الجماعة لا تقوم بالبتر؛ ولكنها تترك ذلك لحركة الفرد؛ لأنها لا تفقد الأمل فيه، وتتمنى منه العود.. والعود أحمد..
الغصن حياته مرهونة باتصاله بالشجرة
إن الجماعة شجرة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء، أغصانها مورقة مزهرة مثمرة، وعطاؤها متجدد، وثمارها طيبة موصولة لا تنقطع صيفًا ولا شتاءً.. وإذا انفصم عنها غصن، ذبلت أوراقه، وماتت ثماره، وجفت عروقه، وصار حطبة تشتعل فيها النيران.. وهذا شأن الفرد في الجماعة موصول بالأصل، فحياته باقية حتى بعد موته، وثماره وفيرة وهو في قبره، وله لسان صدق في الآخرين، وما انفصم أحد عن الجماعة إلا صار كالغصن المنقطع عن أصله.
الهوامش:
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: باب تَشْبِيكِ الأَصَابِعِ فِى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ 2/143(481)، ومسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2585/65).
(2) أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم 4/1999 (2586/66).
(3) القاصية: المنفردة عن القطيع البعيدة عنه (النهاية 4/75).
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: فِي التَّشْدِيدِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ 1/129، والنسائي في كتاب الإمامة، باب: التَّشْدِيدِ فِى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ 2/106 (847).
(5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ 6/175 (2887).