أنا أذكر مرة ، سمعت قصة إنسان خطب فتاة ، فلما دخل بها لم تعجبه إطلاقاً ، واسودَّت الدنيا في عينيه ، وضاقت نفسه ، وفي صبيحة اليوم التالي هام على وجهه ، وهو من سكان المدينة المنورة ، غاب عن المدينة عشرين عاماً ، لما رأته زوجته في أول لقاء معها ، رأته متضايقاً ، قالت له : قد يكون الخير كامناً في الشر ، يعني إن رأيتني شرًّا فقد يكون الخير كامناً في الشر ، بعد أن عاد بعد عشرين عاماً دخل إلى المسجد فرأى عالماً شاباً وحوله آلاف مؤلفة، سأل : من هو ؟ فإذا هو ابنه ، فلما انفضَّ الناسُ من حوله قال : يا فلان قل لأمِّك إنَّ في الباب رجلاً يقول لك : قد يكون الخير كامناً في الشر ، قالت : يا بني إنه أبوك .
فحينما عاد إلى المدينة سأل عن أخبار زوجته الشابة ، هل وضعت حملها ، وهل كان ذكراً أو أنثى ، وإذا كان ذكراً فما حاله اليوم ، أسئلة كثيرة تواردت على ذهنه ، لكنْ في القصة موقف عجيب ، وهو أن زوجته حينما رأته ، وأبلغت ابنها فروخاً أنه أبوه ، لأنه رأى الباب مفتوحًا فدخل ، إنسان غاب عن بلده أمدًا طويلاً ، فالتبس الأمر على فروخ أنه إنسان فارس ، يدخل إلى بيت دون استئذان ، وهو بيتـه ،فحدثَتْ مشادة بينه وبين ابنه دون أن يعرف ، استيقظت الزوجةُ على الضجيج ، فأَطلَّت من النافذة فقالت : يا بني إنه أبوك ، وحينما سمع ربيعةُ أنّ هذا أبوه طفق يعانقه ويقبِّل يديه ، وعُنُقَه ، ورأسَه ، ونزلت أم ربيعة تسلم على زوجها الذي ما كانت تظن ظناً أنه حيٌّ على وجه الأرض ، بعد أن انقطعت أخباره مدةً طويلة ، جلس فروخ إلى زوجته وطفِق يحدِّثها عن أحواله ، ويكشف لها عن أسباب انقطاع أخباره ، ولكنها كانت في شغلٍ شاغل عن كثير مما يقول ، لقد نغص فرحتها بعودته ، واجتماع شملها به خوفُها من غضبه على إضاعة المال الكثير الذي أودعه عندها ، فقد ترك ثروة طائلة ، مثل الآن عشرة ملايين ، كانت تقول في نفسها : ماذا لو سألني الآن عن ذلك المبلغ الكبير ، وهي أنفقته كله على ابنها ، حتى صار بهذا العلم ، ماذا سيكون لو أخبرته أنه لم يبق منه شيء ، أيقنعه قولي : إنني أنفقته على تربية ابنه وتعليمه ، وهل تبلغ نفقة ابنه هذا المبلغ الضخم ، أيصدِّق ذلك ! في داخله صراع مع نفسها ، فرحت بلقاء زوجها ، لكنها خافت من موضوع المبلغ الكبير ، وفيما كانت أم ربيعة غارقة في هواجسها التفتَ إليها زوجُها ، وقال : لقد جئتك يا أم ربيعة بأربعة آلاف دينار، فأخرجي المال الذي أودعته عندك وضمِّيه إليه ، ونشتري بالمال كله بستاناً ، أو عقاراً ، نعيش من غلته ما امتدت بنا الحياة ، فتشاغلتْ عنه ولم تجبه بشيء ، أعاد عليها الطلب ، وقال : أين المال حتى أضمّ إليه ما معي ؟ قالت : لقد وضعته حيث يجب أن يوضع ، في المكان الصحيح ، وسأخرجه لك بعد أيام قليلة إن شاء الله ، وقطع صوت المؤذن عليها الحديث ، فهبَّ فروخ إلى إبريقه فتوضأ، ومضى نحو الباب يقول : أين ربيعة ؟ فقالوا : سبقك إلى المسجد ، منذ النداء الأول ، ولا نحسبك أن تدرك الجماعة ، لم يعرف القصة ، فبلغ فروخ المسجد ووجد أن الإمام قد فرغ من الصلاة ، فأدّى المكتوبة ، ثم مضى نحو الضريح الشريف فسلم على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم انثنى نحو الروضة المطهرة ، فقد كانت في فؤاده أشواق إليها ، تخيَّر مكان في رحابها وجلس ، ولما همّ بمغادرة المسجد وجد باحته قد غصّت على رحبها بمجلس من مجالس العلم ، لم يشهد له نظيراً من قبل ، ورأى الناس قد تحلَّقوا حول شيخ المجلس حلقة إثر حلقة ، حتى لم يتركوا للساحة موطئًا لقدم ، وأجال بصره في الناس ، فإذا فيهم شيوخ معمّرون ومعمّمون ، وذو أسنان ، ورجال متوقرون ، تدلّ هيأتهم على أنهم ذو أقدار ، وشبان كثيرون قد جثّوا على ركبهم، وأخذوا أقلامهم بأيديهم ، وجعلوا يلتقطون ما يقوله الشيخ كما تلتقط الدرر ، ويحفظونه في دفاترهم ، كما تحفظ الأعلاق النفيسة ، وكان الناس متجهين بأبصارهم إلى حيث يجلس الشيخ منصتين إلى كل ما يلفظ من قول ، حتى كأنَّ على رؤوسهم الطير ، وكان المبلغون ينقلون ما يقوله الشيخ فقرة فقرة ، فلا يفوت أحد منها شيء مهما كان ، وحاول فروخ أن يتبيّن من هو الشيخ ، ولا يعرف أنه ابنه ، فلم يفلح في ذلك لموقعه منه ، وبُعْدِه عنه ، لقد راعه منه بيانه المشرق ، وعلمه المتدفق ، وحافظته العجيبة ،