أُسر سهيل بن عمرو في غزوة بدر، وكان يهجو رسول الله قبلها غير أن رسول الله عفى عنه.. وقال لعمر في ابتسامةٍ لطيفة: "لعل سهيلاً غدًا يقف موقفًا يسرّك".
وفي صلح الحديبية كان سهيل بن عمرو هو المفاوض لرسول الله، حتى أسلم في فتح مكة وقال: "والله لا أدع موقفًا من المشركين، إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقةً أنفقتها مع المشركين، إلا أنفقت مع المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضًا.
اجتهد سهيل في العبادة من صلاةٍ وصومٍ وكرَّث موهبته الخطابية الفذة في خدمة الإسلام، وعاش حياته يريد أن يشفي صدره بعملٍ يُرضيه ويشفع له عند الله وعند الرسول وعند نفسه.
وتمر السنون تلو السنون، وهو يترقب عملاً كبيرًا، ورغم أن حب سهيل لمكة جعله لا يستطيع مفارقتها بعد إسلامه، إلا أن وجوده في مكة، أتاح له فرصة عمره في أن يخدم الإسلام خدمةً جليلةً، في أعنف هزةٍ مرَّت بالمسلمين منذ بداية البعثة على الإطلاق.. ألا وهي وفاة رسول الله ونكوص البعض على أعقابهم والرجوع للكفر.
لقد وقف سهيل بن عمرو في مكة بين أهلها، مستعينًا بالله وبكل ما حاباه من موهبةٍ في الخطابة، وقدرة على الإقناع، ليثبِّت المسلمين على إيمانهم، ويُذكرهم بخلود الرسالة لا الأشخاص، وأنهم يعبدون الله الذي لا يموت، لا محمدًا الذي قد مات، كما سيموت كل البشر، وظل سهيل أيامًا وأيامًا يحاول ويحاول ما استطاع، أن يدرأ فتنة في مكة كما كان أبو بكر يفعل في المدينة، ولقد نجح إلى حدٍّ كبيرٍ في درأ فتنة، كادت تعصف بجهادٍ طويلٍ للرسول وأصحابه عبر ثلاث وعشرين عامًا في أرض الرسالة مكة.
ربما وصل الخبر بعدها عمر بن الخطاب ليتذكر على الفور كلمة الرسول له: "لعل سهيلاً غدًا يقف موقفًا يسرّك"، ولقد حارب حتى استُشهد في اليرموك.
درس ومعنى
1- أي إنسانٍ يحمل بين جنبيه الخير والشر، ومها كانت أخلاق شخص ما سيئة، فمن الممكن أن يتحوَّل يومًا (الرسول يتوقع لسهيل بن عمرو أن يكون يومًا ما في صف الإسلام).
لا ينبغي أن نحكم على أي شخصٍ حكمًا مطلقًا، فنقول إن هذا الشخصَ شرٌّ كله ولا أملَ فيه على الإطلاق، ولا ينبغي أن نطلق حكمًا عامًا على شخصٍ ما؛ لأننا نرى به عيبًا واضحًا، متجاهلين كل مميزاته التي لا نراها أو لا نريد أن نراها.
2- قوة الفكرة الإسلامية لا يستطيع أن يقف أمامها أحد (الرسول كان يهدف فقط من الصلح أن يسمح له بالدعوة في الجزيرة العربية، دون منغصاتٍ من قريش).
3- عند التفاوض على أمرٍ ما، لا تدع الطرف الآخر يستنزفك إلى قضايا فرعية، وضع عينك دائمًا على الهدف (الرسول يوافق على أن يُكتب محمد بن عبد الله، وباسمك اللهم بدلاً من محمد رسول الله وبسم الله الرحمن الرحيم).
يعطي الرسول لنا درسًا في التفاوض في موقفه مع سهيل بن عمرو، فهو لم يتوقف كثيرًا عند أمور اعتبرها الرسول غير جوهرية في التفاوض، في سبيل أن يركز على بنود التفاوض الأساسية، كما أنه أوهم سهيل بن عمرو بأنه قد تنازل له عن مطالب له، ليظن أنه بذلك قد اكتسب نقطةً في التفاوض، وهو لم يكسب شيئًا في الحقيقة عند التفاوض، فينبغي أن نُركِّز على الجوهر، ولا ندع للآخر فرصةً أن يبعدنا عن الهدف الذي نريده.
4- الإسلام دين رحمة وليس دين انتقام (الرسول يعفو عن أهل مكة بعد فتحها).
جاء الإسلام رحمةً للعالمين، وجاء ليعلم الناس أن يتراحموا فيما بينهم، وأن يعتادوا على أن يعيشوا بروح التسامح لا بروح الانتقام.
والتسامح لا يأتي إلا إذا كنت قادرًا على الرد على الإساءة، وبالتالي فالمطلوب أن يتم التسامح في إطار من الهيبة والحفاظ على احترام الشخصية، حتى يعلم الطرف الآخر أن تسامحك لم يكن عن ضعف، وإنما إعلاء لمشاعر النبل والرحمة التي دعانا لها الإسلام، كما أن في التسامح ميزة كبيرة، فهو يريح النفس ويجعلها هادئة غير مضطربة بنار الرغبة في الانتقام، ولا يستهلك طاقة الإنسان في الكره وتدبير وسائل الانتقام، بل يفرغ طاقة الإنسان في الاتجاهات الإيجابية في حياته.
5- رغبة سهيل بن عمرو في أن يعوض ما فاته، جعله يقف موقفًا عظيمًا بعد وفاة الرسول (سهيل بن عمرو يثبت المؤمنين في مكة بعد صدمة وفاة الرسول).
عندما يتوب الله على العاصي، يشعر بأنه قد وُلد من جديد، وأن يوم مولده هو يوم أن عرف طريق الله، وينظر خلفه ليندهش، كيف كان جريئًا على الله ليرتكب كل هذه المعاصي، ويدفع الكثير من التائبين الحماس، لأن يستزيد من العبادة في القيام وحفظ القرآن، وكأنه قد نزل على بئر ماء بعد أن سار طويلاً في الصحراء في قيظ الحر.
إن الذي لم يعرف طريق الله، لم يذق طعم الحياة بعد، فلذة الحياة الحقيقية هي في الشعور برضا الله والقرب منه، والتطلع إلى الفوز بجنته.